رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلطانة الطرب ترسم مصائر سلاطين القصور

جريدة الدستور


جعفر البرمكى أغضب هارون الرشيد حين رفض أن يهبه مغنيته فتينة
سلاّمة القس جمعتها قصة حب بالعابد الزاهد عبدالرحمن بن عبدالله الجشمى الملقب بـ«القس»
لم تكن المغنية التى أسرت قلب نور الدين بن محمد مجرد زوجة بل الحاكم الحقيقى للبلاد



يتعجب المتابع لتاريخ قصور الخلفاء المسلمين، وما تفاعل فيها من أحداث، من الحضور الملحوظ الذى تمتعت به المغنيات والمطربات. يستوى فى ذلك عصر «يزيد»، مع عصر «الرشيد»، مع عصر صلاح الدين. فى أحوال عديدة شاركت المغنيات فى تحديد مسارات الأحداث، وكن فى أوقات سببًا لاندلاع حروب تحركت فيها الجيوش، ليقتل المسلمون بعضهم بعضًا. لم تكن السياسة بعيدة عن الفن، ولم يكن نجوم الفن بعيدين عن حلبة السياسة. بل كانت الخيوط الفاصلة بين السياسة والفن - كما هى العادة - واهنة للغاية. مؤكد أنك سمعت عن «سلّامة القس» التى عولجت قصتها فى فيلم شهير لسيدة الغناء العربى «أم كلثوم»، لكن سلّامة تلك التى ظهرت فى وقت يزيد بن الوليد، لم تكن «سلّامة» الوحيدة التى عرفتها قصور الأمويين، بل سبقتها «سلّامة الأحوص» فى عهد يزيد بن معاوية، وكانت لها قصة شديدة الطرافة داخل قصر الخلافة. وكذلك كانت الحال داخل قصور «بنى العباس». فخلال فترة حكم الخليفة هارون الرشيد سطع نجم المغنية «فتينة» جارية الوزير جعفر البرمكى، ودخلت بعد مقتل الوزير ضمن ما استولى عليه الخليفة من مقتنيات البرامكة بعد التخلص منهم، وقد ظلت على وفائها لحبيبها جعفر البرمكى حتى ماتت. وفى عصر الناصر صلاح الدين ظهرت مغنية كان لها شأن عظيم فى عصرها. من أجلها عقد السلطان هدنة مع الصليبيين، حتى يتمكن من توجيه جيوشه لنصرة صديقه نورالدين بن محمد الذى تزوجها على زوجته الأولى ابنة أحد ملوك السلاجقة «قلج أرسلان»، فحرك الأخير جيشًا لتأديبه، لكن صلاح الدين تمكن من ردعه وإرعابه، ودافع بشراسة عن حق حليفه فى الزواج بالمغنية المجهولة.


يزيد بن معاوية كان يتسلى باللقاءات الغرامية بين المغنية سلّامة وحبيبها

يبدو أن العهد الأموى كان موعودًا بالمغنيات. وعلى ما تمتعت به «حبابة» - مغنية الوليد بن يزيد - من شهرة، إلا أن اسم «سلّامة» كان الأشهر. وقد ظهرت فى هذا العهد مغنيتان بهذا الاسم، الأولى هى سلّامة التى أحبت «الأحوص بن محمد» ويصح أن نسميها «سلّامة الأحوص»، وسطع نجمها فى عصر الخليفة الأموى الثانى يزيد بن معاوية. والثانية هى سلّامة الشهيرة بـ«سلّامة القس» وظهرت فى عصر يزيد بن عبدالملك، وهو واحد من أواخر خلفاء بنى أمية، ورغم ما تؤشر إليه حكايات التراث من تفوق «حبابة» عليها فى الموهبة والمهارة، وكذلك فى المنزلة لدى الخليفة، إلا أن «سلّامة القس» ظلت أكثر حضورًا منها بسبب دراما حياتها التى جللتها قصة حب جمعت بينها وبين العابد الزاهد عبدالرحمن بن عبدالله الجشمى الملقب بـ«القس» لفرط ورعه وتقواه.
لـ«سلّامة الأحوص» قصة لا تقل طرافة عن قصة «سلّامة القس». والخيط الجامع بين القصتين جوهره تجربة حب ملتهبة. لم تكن سلامة الأحوص مجرد مغنية، بل جمعت عدة مواهب جعلتها مركزًا لاهتمام أهل المدينة المنورة، حيث كانت تعيش، وخصوصًا من الرجال. يذكر «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» أن «سلّامة» كانت «من أحسن النساء وجهًا، وأحسنهن عقلًا، وأحسنهن قدًّا. فقد قرأت القرآن وروت الشعر». الواضح أن «سلّامة» جمعت بين جمال الوجه والقد، ورجاحة العقل، وجمال الصوت، لذا كان من الطبيعى أن يفتتن بها الرجال ويجلسوا إليها طلبًا لمتعة النظر ونشوة الاستماع، ويتمنى كل منهم قربها، وأن تلعب الغيرة بينهم دورها فى تحديد مسارات الأحداث. وقد كان للغيرة دور خطير فى حياة «سلّامة». وكان ثمة رجلان شديدا الحرص على مجلس المغنية الشهيرة، هما عبدالرحمن بن حسان والأحوص بن محمد. وكانا يتنافسان على حبها، لكن قلبها مال إلى الثانى فتعلقت بالأحوص، فدبّت الغيرة فى قلب عبدالرحمن، وبدأ فى التحرك ثأرًا لحبه الجريح. كان هناك طريق واحد حاسم لحل هذه المعضلة، هو طريق القصر الأموى، فتحرك إليه عبدالرحمن سريعًا.
رحل «ابن حسان» إلى يزيد بن معاوية فى الشام، فامتدحه ودلّه على سلّامة وجمالها وحسنها وفصاحتها وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين وأن تكون من سُمّارك فأرسل يزيد فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعًا عظيمًا وفضّلها على جميع من عنده. لم يكتف «ابن حسان» بذلك، فأراد أن يرى الحسرة فى عينى غريمه فى حب «سلامة»، فرجع إلى المدينة، فمر بالأحوص فوجده مهمومًا، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم همًا، فقال له شعرًا ينبئه من خلاله بأن سلامة أصبحت فى حوزة «من ينال منها الشم والريحا.. خليفة الله فسل الهوى * وعز قلبا منك مجروحا». طوى «الأحوص» حبه بين جوانحه وحاول أن يتصبر عنه، ولكن هيهات. اندفع الرجل إلى ركوب الصعب، وقرر الذهاب إلى حيث حُملت حبيبته، فسار إلى يزيد فامتدحه فأكرمه يزيد وحظى عنده.
لم يكن يزيد يعلم أن «الأحوص» لم يأت مدحًا للخليفة، بل بحثًا عن «سلامة» التى أوجعت قلبه بفراقها. علمت الأخيرة بوصول حبيبها ومبيته معها فى قصر الخليفة، فدست إليه خادمًا وأعطته مالًا على أن يدخله إليها فأخبر الخادم يزيد بذلك فقال امض لرسالتها ففعل. وأدخل الأحوص عليها. وجلس يزيد فى مكانه يراهما ولا يريانه. فلما بصرت الجارية الأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فألقى له كرسى فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه، فلم يزالا يتحدثان إلى السحر. ويزيد يسمع كلامهما من غير أن تكون بينهما ريبة، ثم ودعها وخرج. أراد الخليفة يزيد بن معاوية أن يتسلى بهذا المشهد الساخن بين حبيبين يلتقيان بعد فراق، وذلك شأن الحكام فى كل زمان ومكان. دائمًا ما يبحثون عما يسليهم. وإمعانًا فى التسلية بهذا قرر «يزيد» استدعاء كل من سلامة و«الأحوص» بعد اللقاء الملتهب الذى جمع بينهما. وقف الاثنان أمامه فقال لهما يزيد: «أخبرانى عما كان فى ليلتكما واصدقانى، فأخبراه وأنشداه ما قالا فلم يحرّفا منه حرفًا ولا غيّرا شيئًا مما سمعه. فقال لها يزيد: أتحبينه؟ قالت: إى والله يا أمير المؤمنين» وأخذ الاثنان ينشدان شعرًا يعبر فيه كل طرف عن أشواق الحب ولوعته. فما كان من يزيد إلا أن قال لهما: «إنكما لتصفان حبًا شديدًا، خذها يا أحوص فهى لك، ووصله صلة سنية، فرجع بها الأحوص إلى الحجاز وهو قرير العين». كان من حظ الأحوص أن يصادف خليفة كيزيد يطرب للحب والعشق فيرد عليه حبيبته ويعطيه فوق تلك النفحة نفحة مال.

فتينة رفضت الغناء أمام هارون الرشيد فحطم الخليفة العود فوق رأسها


تحكى قصة الوزير جعفر بن يحيى «البرمكى»، مع الخليفة هارون الرشيد واحدة من المآسى المتكررة فى التاريخ الإنسانى. مأساة الوزير الطامح المنتمى إلى عائلة سياسية لها قوتها ونفوذها، مما يغريه فى أحوال بعدم مراعاة شئون السياسة فى علاقته بالخليفة الذى أحلّه فى مقعد الوزارة، فيكون مصيره القتل. وهكذا المسئول دائمًا، يفقد حسه السياسى عندما يشعر بفرط قوته، وتكون النتيجة أن يدفع حياته ثمنًا لذلك. تجرأ جعفر واتخذ قرارًا خطيرًا بالإفراج عن يحيى العلوى (الشيعى) أحد الخصوم الكبار للخليفة الرشيد. يقول «ابن الأثير»: «وكان الرشيد قد دفع يحيى بن عبدالله بن الحسن بن على إلى جعفر بن يحيى بن خالد، فحبسه، ثم دعا به ليلة، وسأله عن بعض أمره، فقال له: اتق الله فى أمرى، ولا تتعرض أن يكون غدًا خصمك محمد، صلى الله عليه وسلم، فوالله ما أحدثت حدثًا ولا آويت محدثًا. فرقّ له، وقال: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: فكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ؟ فوجّه معه من أداه إلى مأمنه». دفع الوزير جعفر وقومه من البرامكة رءوسهم ثمنًا لهذا القرار، ليطوى التاريخ صفحة وجودهم فى بؤرة صناعة القرار داخل الدولة العباسية.
ورث الرشيد جعفرًا، وكان من ضمن الميراث مغنية فاتنة اسمها «فتينة» اشتراها جعفر مع عدد من الجوارى بمبلغ مائة ألف دينار، يصف «ابن كثير» فتينة قائلًا: «لم يكن لها فى الدنيا نظير». اعتاد جعفر على اقتناء الجواهر الثمينة، أيًا كان شكلها أو نوعها. والمعلوم بالضرورة أن مثل هذه الجواهر مكانها قصور الخلفاء وليس الوزراء، لذا كان من الطبيعى أن يطلب الرشيد من جعفر تمليكه «فتينة». فطلبها منه الرشيد فامتنع جعفر من ذلك. وظلت الأمور تجرى فى هذا المجرى، حتى ذُبح جعفر على يد «مسرور» بأمر الرشيد، ولأن من مات فات. فقد ورث الرشيد «فتينة» فيما ورث من المقتنيات النادرة التى حازها جعفر. يقول «ابن كثير»: «اصطفى الرشيد تلك الجارية فأحضرها ليلة فى مجلس شرابه وعنده جماعة من جلسائه وسُمّاره، فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغنى حتى انتهت النوبة إلى فتينة، فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت أما بعد السادة فلا». رد فتينة كان مفحمًا ومؤلمًا للرشيد. فهى لا تغنى بعد زوال السادة، تقصد البرامكة الذين كان يقودهم الوزير جعفر، وهو رد كان كفيلًا باشتعال الخليفة غضبًا.
لما سمع الرشيد هذا القول غضب غضبًا شديدًا، وأمر بعض الحاضرين بأن يأخذها إليه، فقد وهبها له، ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه: لا تطأها. ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها. فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضى عنها وأمرها بالغناء فامتنعت وأرسلت دمعها وقالت «أما بعد السادة فلا»، للمرة الثانية تدهم فتينة الخليفة العباسى بهذا القول المرعب «أما بعد السادة فلا». وكانت النتيجة أن غضب الرشيد أشد من غضبه فى المرة الأولى، وأمر بالنطع والسيف. قرر الرشيد قطع رأس «فتينة» التى لا تفهم أنه سيد سادتها. وجاء السيّاف فوقف على رأسها فقال له الرشيد: إذا أمرتك ثلاثًا وعقدت أصابعى ثلاثًا فاضرب. ثم قال غنى: فبكت وقالت أما بعد السادة فلا. فعقد أصبعه الخنصر، ثم أمرها الثانية فامتنعت فعقد اثنتين، فارتعد الحاضرون وأشفقوا غاية الإشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغنى لئلا تقتل نفسها وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد، ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغنى كارهة: «لما رأيت الدنيا قد درست.. أيقنت أن النعيم لم يعد». فوثب إليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تكسر وأقبلت الدماء وتطايرت الجوارى من حولها، وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث.

الناصر صلاح الدين عقد هدنة مع الصليبيين حتى يوجه جيشه دفاعًا عن حق حليفه نورالدين بن محمد فى الزواج بمطربة

هذه قصة ثالثة تحكى لك كيف كانت المغنيات يكتبن التاريخ، ويحددن مسارات الأحداث، حتى فيما يتعلق بقادة وسلاطين يتمتعون بصورة شديدة النقاء لدى جمهرة المسلمين. المغنية الثالثة، مجهولة الاسم، وقد قفزت على سطح الأحداث فى عصر السلطان الناصر صلاح الدين، ولعبت دورًا فى صرفه مدة من الزمن عن قتال الصليبيين. تبدأ تفاصيل القصة عند نورالدين بن محمد صاحب «ديار بكر»، وهو واحد من أبرز حلفاء صلاح الدين، وكان متزوجًا من ابنة «قلج أرسلان بن مسعود» أحد ملوك السلاجقة، ونعم معها بالحياة مدة من الزمن، ولكن لأن قلوب الرجال متحولة متغيرة، ونفوسهم ملولة بطبيعتها، فقد قرر نورالدين فجأة أن يأتى بزوجة جديدة، تكون ضرة لابنة «قلج أرسلان»، فإذا به يأتى بمغنية أحبها فتزوجها. والظاهر أن الزوجة الجديدة كانت شديدة التأثير على نورالدين، بل قل كانت مسيطرة عليه كل السيطرة. يقول «ابن الأثير» فى «تاريخه»: «وحكمت - يقصد المغنية - فى بلاده وخزائنه، وأعرض عن ابنة قلج أرسلان، وتركها نسيًا منسيًا، فبلغ أباها الخبر، فعزم على قصد نورالدين وأخذ بلاده».
لم تكن المغنية التى أسرت قلب نورالدين مجرد زوجة، بل تحولت إلى الحاكم الحقيقى للبلاد، ومؤكد أنها حكمت أول ما حكمت فى أمر الزوجة الأولى ابنة «قلج أرسلان»، فقرر الأخير التحرك بجيوشه للثأر لابنته الذى أتى لها زوجها بـ«ضرة». وخوفًا من حملة الغضب التى انتوى «قلج أرسلان» تسييرها استنجد «نورالدين» بالسلطان الناصر. «فأرسل إلى صلاح الدين يستجير به ويسأله كف يد قلج أرسلان عنه، فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان فى المعنى، فأعاد الجواب: إننى كنت قد سلمت إلى نورالدين عدة حصون مجاورة بلاده لما تزوج ابنتى، فحيث آل الأمر معه إلى ما تعلم، فأنا أريد أن يعيد إلى ما أخذه منى، وترددت الرسل بينهما، فلم يستقر حال فيها». فى ذلك الوقت كان صلاح الدين يتزعم المسلمين فى مواجهة الصليبيين، فإذا بالجميع يتركون هذا الشأن الخطر، ويغرقون فى مشكلة زواج نورالدين على ابنة «قلج أرسلان».
وصل الأمر بسلطان المسلمين إلى حد مهادنة الفرنج. يقول «ابن الأثير»: «فهادن صلاح الدين الفرنج، وسار فى عساكره، وكان الملك الصالح إسماعيل بن نورالدين محمود صاحب حلب فيها، فتركها ذات اليسار، وسار على تل باشر إلى رعبان، فأتاه بها نورالدين محمد وأقام عنده، فلما سمع قلج أرسلان بقربه منه أرسل إليه أكبر أمير عنده، ويقول له: إن هذا الرجل فعل مع ابنتى كذا، ولا بد من قصد بلاده، وتعريفه محل نفسه، فلما وصل الرسول، واجتمع بصلاح الدين، وأدى الرسالة، امتعض صلاح الدين لذلك واغتاظ، وقال للرسول: قُل لصاحبك والله الذى لا إله إلا هو لئن لم يرجع لأسيرن إلى ملطية وبينى وبينها يومان، ولا أنزل عن فرسى إلا فى البلد، ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه». ربطت كل الأطراف رأسها، ولم تنفع قلج أرسلان شكاواه لصلاح الدين، مما فعل نورالدين بابنته حين أتى لها بضرة، فأقسم صلاح الدين بغزو بلاده والاستيلاء عليها، دفاعًا عن حق نورالدين فى الزواج بالمغنية المجهولة.
رأى رسول قلج أرسلان أمرًا شديدًا من صلاح الدين، فقام من عنده، وكان قد رأى العسكر وما هو عليه من القوة والتجمل، وكثرة السلاح والدواب وغير ذلك، وليس عنده ما يقاربه، فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم، فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به، فأحضره فقال له: «أريد أن أقول شيئًا من عندى ليس رسالة من عند صاحبى، وأحب أن تنصفنى. فقال له: قُل، قال: يا مولانا ما هو قبيح بمثلك، وأنت من أعظم السلاطين وأكبرهم شأنًا، أن تسمع الناس عنك أنك صالحت الفرنج، وتركت الغزو ومصالح المملكة، وأعرضت عن كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة، وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة، وسرت وخسرت أنت وعساكرك الأموال الكثيرة من أجل «......» مغنية؟. ما يكون عذرك عند الله تعالى، ثم عند الخليفة وملوك الإسلام والعالم كافة؟. وأحسب أن أحدًا ما يواجهك بهذا، أما يعلمون أن الأمر هكذا؟ ثم أحسب أن قلج أرسلان مات، وهذه ابنته أرسلتنى إليك تستجير بك، وتسألك أن تنصفها من زوجها، فإن فعلت، فهو الظن بك ألا تردها. فقال: والله الحق بيدك، وإن الأمر لكما تقولن، ولكن هذا الرجل دخل علىّ وتمسك بى ويقبح بى تركه، لكنك أنت اجتمع به، وأصلح الحال بينكما على ما تحبان، وأنا أعينكم عليه وأقبح فعله عنده؛ ووعد من نفسه بكل جميل، فاجتمع الرسول بصاحب الحصن، وتردد القول بينهم، فاستقر أن صاحب الحصن يخرج المغنية من عنده بعد سنة، وإن كان لا يفعل ينزل صلاح الدين عن نصرته، ويكون هو وقلج أرسلان عليه، واصطلحا على ذلك، وعاد صلاح الدين عنه إلى الشام، وعاد نورالدين إلى بلاده، فلما انقضت المدة أخرج نورالدين المغنية عنه، فتوجهت إلى بغداد، وأقامت بها إلى أن ماتت».
الحوار السابق كاشف من جميع الوجوه، فهو يكشف أولًا عن حكمة رسول «قلج أرسلان» الذى وضع الأزمة فى حجمها الطبيعى، ونبّه صلاح الدين إلى وضعه كسلطان للمسلمين، لا يليق بحال أن يترك أمر الفرنجة ليورط نفسه فى حرب، سببها «مغنية»، ويكشف ثانيًا عن طبيعة شخصية صلاح الدين التى أحيانًا ما كانت تميل عن عظائم الأمور إلى سفاسفها، وكانت تحركه انحيازاته أكثر مما تسيره مبادئه.