رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بلطجة تركية


للبلطجة فى مسار الدولة العثمانية التاريخية، وامتداداتها الأردوغانية المعاصرة، شأنٌ وأى شأن!.. فكلمة «بلطجى»، كما تُفيد القواميس والمراجع، كلمة تركية الأصل، مكونة من مقطعين: «البلطة»، وهى أداة حادة، تُستخدم فى تقطيع الأشجار، ولازمة «جى»، التى تفيد النسب فى اللغة التركية، وتتردد كثيرًا فى مفردات موروثة من عهود الاحتلال العثمانى، كـ«المكوجى»، و«العربجى»، و«الجزمجى».. إلخ.

و«البلطجية» اسم كان يطلق على إحدى فرق المشاة العثمانيين، كانت تتقدم القوات المحاربة، لإزالة الحواجز التى تعترض مسيرة الجند، وشق الطريق وقطع الأشجار، فى مناطق الأحراش والغابات.. وقد انتقلت فرق «البلطجية» إلى مصر فى عهد محمد على باشا، كقسم منظم من أقسام الجيش، لكن مع مرور الوقت، وتقدم المستوى التقنى للجيوش، أصبح هذا النظام باليًا، فاستُغنى عن منتسبيه، وتم تسريحهم من الخدمة العسكرية، فتحولوا للعيش وسط جموع المصريين، والانتشار فى مختلف القرى والمدن المصرية.
وقد استعان هؤلاء بقوتهم العضلية المتكونة من أيام الجندية، على «أكل عيشهم» و«تقليب رزقهم»، الأمر الذى حولهم تدريجيًا إلى المفهوم الحديث الذى نعرفه الآن، باعتبار «البلطجية» الأشخاص الخارجين على النظام، وغالبًا هم من العاطلين و«السوابق» والمدمنين، الذين يستخلصون حاجات معيشتهم بـ«رمى الجتت» على «عباد الله»، وبفرض الإتاوات، والابتزاز، والنصب، وبالتورط فى كل الأعمال غير المشروعة، وبممارسة العنف والإكراه وترهيب البسطاء، وإيقاع الأذى بالناس، فى تحدٍ بالغ للدولة والسلطة، خاصةً فى فترات ضعفهما، وأوضاع الفوضى والانفلات الأمنى، وقد نجحت السينما المصرية، عبر العديد من أعمالها، فى نقل مظاهر حياة هذه القطاعات الهامشية فى المجتمع، التى كان لها فى فترات، وفى بعض المناطق، «شنّة ورنة»!.
هذه «الفذلكة» التاريخية، استدعاها التَفَكُّر فى دواعى التوجهات والأعمال والتصرفات، التى يمارسها نظام وشخص «رجب طيب أردوغان»، فيما يخص مصر والدول العربية المعارضة لسياساته، وبالذات سوريا!.. فهو مُصِّرٌ على فرض الهيمنة والوصاية على بلدان المنطقة، وعلى «جر شكل» خصومه السياسيين، وفرض أطماعه عليهم، بمناسبة وبدون مناسبة، تحقيقًا لحلمه الوهمى بإعادة بناء إمبراطورية «آل عثمان» البائدة، التى سامت شعوبنا الذل والعذاب، لقرون ممتدة، وكانت السبب المباشر لاستطالة تأخرها، وإضعافها، وسلبها القدرة على التقدم والتحرر.
وقد رأينا فى تعامله الهستيرى مع مصر بعد الإطاحة بحكم «الإخوان»، فى ٣٠ يونيو، نموذجًا كاملًا لسلوك «البلطجية» المبتذل، بعد أن «راحت عليهم»، وزالت دولتهم، وتحولوا من جنود نظاميين، يؤدون مهمة مشروعة، إلى عصابات تمارس القرصنة والإجرام، على نحو ما يفعله مع حُكّام قطر والسودان والنظام الإثيوبى، لخنق مصر، وحصارها خارجيًا، نُصرةً لأتباعه من الإرهابيين والمرتزقة، وفى العمل الدائب لإيقاع أشد الضرر بشعبها ومصالحها، ولممارسة الابتزاز، وفرض إتاوات لا يستحقها، كما تَبَدّى ذلك، أخيرًا، فى قضية الغاز بشرق البحر المتوسط. كما رأيناه يفعل مثل ذلك فى سوريا، بالتدخل العسكرى الوقح فى شئون دولة ذات سيادة، واحتلال أجزاء من ترابها، واحتضان فرق المرتزقة من الإرهابيين المتواجدين على أرضها، وبالعدوان العسكرى السافر على قسم من مواطنيها، كما جرى فى منطقة «عفرين»، التى يحيا بها أكراد سوريا، مؤخرًا!.. وكما يعلمنا التاريخ، فإن التهاون فى مواجهة الأفعال الخارجة على القانون، وأنشطة الابتزاز والتدخل الفاجر فى شئون الآخرين، والصمت على أفعال «البلطجة» والتهديد المستمرين، للناس ومصالحها، يُشجع على انتشارها، ويغل يد القانون عن وضع حد لجرائمها!.. وحسنٌ ما فعلته مصر مؤخرًا لإبلاغ رسالتها فى هذا الشأن، ولعل فى مقاطعة مصالح الشركات التركية، وما أكثرها فى بلادنا، ما يُفيد كثيرًا فى هذا السياق!.