رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جثة الشام.. «معركة عفرين» تنذر بانهيار التحالف الروسي التركي

معركة عفرين
معركة عفرين

منذ أسبوعين أو يزيد، تدور معارك كر وفر، فى ريف إدلب الجنوبى، بين قوات النظام السورى، وبعض الفصائل المعارضة، بهدف السيطرة على المنطقة الممتدة من مطار أبوالظهور شمالًا، وحتى قرية الخوين جنوبًا. ولا يمكن بأى حال وصف هذه المعارك بأنها معارك كبيرة أو طاحنة، لأنها فى حقيقة الأمر تأتى ضمن تفاهمات «أستانة»، التى قسمت محافظة إدلب إلى ٣ مناطق نفوذ، الأولى هى منطقة النفوذ الروسى، وتقع شرق خط «سكة حديد دمشق - حلب»، والثانية هى منطقة وجود «هيئة تحرير الشام» - جبهة النصرة سابقًا - وتنحصر بين «خط سكة الحديد وأوتوستراد دمشق - حلب»، بينما تقع المنطقة الثالثة «غرب أوتوستراد دمشق - حلب»، وتضم مدينة إدلب، إضافة إلى بعض المدن الأخرى، مثل خان شيخون ومعرة النعمان، وتوجد فيها القوات التركية والفصائل المدعومة منها.

موسكو فشلت فى الضغط على الأكراد لصالح أنقرة
مؤخرًا، استطاعت قوات النظام السيطرة على أكثر من ١٠٠ قرية، تقع فى منطقة «شرق سكة الحديد» خلال زمن قياسى، دون أن تخوض معارك تذكر مع «هيئة تحرير الشام»، التى كانت تسيطر على المنطقة، وأجرت عملية انسحاب كبيرة من هذه القرى، لإتاحة الفرصة لقوات محدودة العدد من النظام للاندفاع شمالًا باتجاه مطار أبوالظهور، حيث استطاعت هذه القوات دخول أطرافه الجنوبية.
ويمكن تفهم أن سير المعارك يدل على وجود اتفاق بين روسيا وتركيا، يقضى بتسليم هذه المنطقة لقوات النظام، تنفيذًا لتفاهمات «أستانة»، وهو ما التزمت به «هيئة تحرير الشام» الرافضة لمسار «أستانة» بشكل علنى، لكن ما يهم هو أن تطورات المعارك والجدل الدبلوماسى بين تركيا وروسيا، كاشفًا عن شىء آخر، هو المتعلق بالتفاهمات حول مدينة «عفرين» التى تسيطر عليها «قوات الحماية الكردية»، وبدأ القصف التركى عليها ضمن عملية «غصن الزيتون» فى ٢١ يناير الجارى وسط تقدم للوحدات العسكرية التركية والجيش السورى الحر.
مع انطلاق المعارك فى ريف إدلب الجنوبى، حشدت القوات التركية حوالى ١٥ ألف جندى حول مدينة «عفرين» وأقامت مستشفيات ميدانية، ما كشف نية الجيش التركى دخول المدينة التى دأب المسئولون الأتراك بكل مستوياتهم على التهديد بدخولها منذ نحو عام كامل.
لكن المراقبين لما يجرى، يدركون أن الجيش التركى لا يمكنه اقتحام المدينة عسكريًا، بسبب الكلفة الباهظة، التى سيتكبدها، وبالتالى هو بحاجة إلى تفاهم مع روسيا، تضغط من خلاله على «قوات الحماية الكردية»، للانسحاب من المدينة وتسليمها إلى طرف آخر، سواء كانت فصائل مدعومة من تركيا، أو من قوات النظام، وهو ما ترفضه القوات الكردية حتى اللحظة.
السلوك التركى دلل بشكل واضح على أن روسيا سبق أن وعدت تركيا بحل قضية «عفرين»، مقابل تسهيل أنقرة سيطرة النظام على ريف إدلب الجنوبى، عبر إقناع «هيئة تحرير الشام» بالانسحاب، مع تسهيل انعقاد مؤتمر «سوتشى» وإقناع المعارضة بحضوره.
وعلى ما يبدو، فإن روسيا لم تكن قادرة على الوفاء بهذا الوعد، لذا شنت فصائل مدعومة من قبل تركيا هجومًا مضادًا، استعادت من خلاله بعض المناطق التى سيطر عليها النظام فى الأسبوعين الأخيرين، كنوع من الرسالة الموجهة لروسيا، بأن الوضع الميدانى قابل للتحول، إذا لم تفِ بالتزاماتها فيما يتعلق بـ«عفرين».
الفصائل التى شنت الهجوم المضاد، ظهرت بمدرعات وآليات مصفحة أمريكية الصنع، وحديثة المنشأ، ولا سيما فصيل «فيلق الشام» المدعوم من تركيا، والذى يعتبر الجناح العسكرى لجماعة الإخوان فى سوريا. ونتيجة لذلك، تباينت التفسيرات الخاصة بظهور هذه الآليات الحديثة، والجهة التى سلمتها لـ«فيلق الشام»، فذهب بعض المراقبين إلى أن الأمريكيين هم من سلموها، بينما ذهب آخرون إلى الجيش التركى، الذى يستخدم هذا النوع من الآليات الثقيلة، بهدف تغيير المشهد الميدانى.
وبغض النظر عن الجهة التى سلمت هذه الآليات لـ«فيلق الشام»، فإنها تسعى لتوجيه رسالة واضحة للروس، مفادها أن قواعد الميدان ليست من صنعهم وحدهم.
من جهتهم، التزم الأمريكيون الصمت، فى بداية الأحداث، حيال ما يجرى، فالتطورات الأخيرة تخدمهم بشكل كبير، أيًا كان اتجاهها، لأنها ستزيد من تعميق الهوة بين تركيا وروسيا، التى ظهرت بمظهر العاجز عن إقناع القوات الكردية بمغادرة «عفرين».
وتسبب الأمر فى غضب الأتراك، وأدى إلى استدعاء السفير الروسى فى أنقرة إلى وزارة الخارجية، لتسليمه رسالة احتجاج من الحكومة التركية، بسبب خرق اتفاق وقف إطلاق النار من قبل قوات النظام.
بدورها ردت وزارة الخارجية الروسية، بأن ما يجرى يتم وفقًا لتفاهمات «أستانة»، وطالبت بأن يؤدى الجانب التركى مهمته، ويمنع شن الفصائل أى هجوم على قوات النظام.

«هجوم حميميم» كشف فشل استراتيجية بوتين.. وأمريكا المستفيد الأكبر
الجدل التركى الروسى لم يقف عند حد الخلاف الدبلوماسى والمناوشات الميدانية، بل تجاوزه إلى المستوى السياسى، وبدأ الأتراك الحديث بشكل «موارب» عن عدم جدوى انعقاد مؤتمر «سوتشى»، الذى تعول عليه روسيا كثيرًا، من أجل استثمار انتصارها العسكرى فى سوريا، وتحويله إلى وقائع سياسية يصعب العودة عنها.
ونتيجة لذلك، بدأت الأنباء ترد من موسكو بأن مؤتمر «سوتشى» لن يعقد فى نهاية هذا الشهر كما كان مقررًا، وكشفت عن نية لتأجيله إلى منتصف الشهر المقبل، وهو ما يشير إلى مدى الخلاف الروسى التركى.
وستكون هذا الأنباء، فى حال صحتها، خبرًا جيدًا لواشنطن، التى لم تبدِ أى حماسة أو تشجيع على انعقاد «سوتشى» بل تمسكت بموقفها الداعم لمسار «جنيف»، برعاية الأمم المتحدة.
التطور اللافت الذى ترافق مع المعارك فى ريف إدلب كان الهجوم على القاعدة الروسية فى «حميميم»، بواسطة طائرات مسيرة محلية الصنع.
ففى البداية، نفت الحكومة الروسية وبشدة أنباء الهجوم، لكنها عادت واعترفت به، بعد أن تكرر مرة ثانية، معترفة بسقوط قتيلين من الجنود الروس فى القاعدة الجوية المحمية بمنظومة صواريخ (٤٠٠ S).
ورغم عدم إعلان أى جهة مسئوليتها عن هذا الهجوم، فإنه من المؤكد أن من نفذه كان يريد إرسال رسالة واضحة لروسيا، ولغيرها من الدول، عبر إظهار العجز الروسى فى مواجهة سلاح بسيط ومتدنٍ الكلفة، ويشير إلى أن زمن الراحة الروسية فى سوريا قد ينقضى، إذا ما أرادت بعض الأطراف ذلك.
فحصانة روسيا من الهجمات لا تعود فقط إلى قدراتها العسكرية، بقدر ما تعود إلى تفاهمات القوى الدولية والإقليمية، التى تركت الروس يتصرفون فى سوريا دون منغصات، ولكن من الصعب الجزم بأن القيادة الروسية استوعبت هذا الدرس، خاصة بعد فترة الانتشاء بوهم القوة والانتصار، الذى شكك فيه بعض المعلقين من الخبراء الروس أنفسهم.
موسكو اليوم، تجد نفسها كمن وقع فى مصيدة، صنعتها أوهام الانتصارات العسكرية والدبلوماسية، فالخطاب الإعلامى الروسى ظل يفتخر بأن دبلوماسيته فى سوريا نجحت بشكل منقطع النظير، وذلك بقدرتها على الجمع بين كل المتناقضات، فى إطار خدمة رؤية موسكو للحل فى سوريا.
كما صورت روسيا نفسها بأنها الوحيدة القادرة على بناء عناصر السلام فى سوريا، لكونها تعمل بتوافق مع كل الأطراف المتناقضة المصالح والسياسات، من إيران إلى تركيا، مرورًا بالسعودية ومصر والأردن، ووصولًا للاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
هذه الدعاية التى روجتها أجهزة الإعلام الروسية بهدف إظهار بوتين أمام شعبه بمظهر القائد القادر على نسج التحالفات، وفرض الإرادة الروسية على جميع الأطراف - سقطت دفعة واحدة، عندما عجزت روسيا عن حماية قاعدتها الرئيسية فى انتشارها العسكرى فى سوريا.
معارك «إدلب» كشفت أيضًا عن مدى هشاشة التفاهمات الروسية مع كل الأطراف، ما يعنى أن سياسات موسكو باتت «محشورة» بين مراكز القوى فى المنطقة، ولا تعرف كيف تخرج من مأزقها حاليًا، فحليفها التركى يهدد باقتحام «عفرين»، بل بدأ عمليًا بعمليات قصف بسيطة فى محيط المدينة، لإخراج الحليف الروسى فى شرق الفرات، المتمثل فى «قوات الحماية الكردية».
الخروج من المأزق لن يكون سهلًا على موسكو، بل سيؤدى بالضرورة إلى إحداث تغيير ولو كان جزئيًا، فى شكل التحالفات فى الشمال السورى.
الروس اليوم مخيرون بين خسارة الأكراد والقطيعة معهم، أو خسارة تركيا التى ساهمت إلى حد كبير فى تطويع قطاع واسع من المعارضة العسكرية والسياسية، للتكيف مع المتطلبات الروسية.
وحدها تقف الولايات المتحدة الأمريكية مترقبة نتائج ما يحدث فى الشمال، لتجنى المكاسب على حساب الروس.