رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى انتظار مَنْ لن يأتى


استدعوه، صلّوا من أجل أن يأتى، استجمعوه من يقظة الأمهات المصلوبات على الكراسى ليلة امتحان الأولاد، من لقمة تُخرجها أُم من فمها قبل أن يكمل الطفل عبارته وهو ينظر للطبق الفارغ إلا من آثار ملح وزيت: هى البطاطس خلصت؟، من قبلة يطبعها عامل على ظاهر وباطن كفه بعد تناوله ثلاثة أرغفة وبجنيه طعمية، من طقطقة عظام الشيالين فى محطة مصر.. استدعوه من غار حراء، من جبل الجليل، من البرية، من غياهب الجب، من بطن الحوت، رتلوا صلوات، وأدعية المطر.
سألوا بنيلوب أن تغزل صورته على نسيجها، أعطوها ملامحه، جبهته واضحة، منبسطة كسهل، بها ثلاث تقطيبات من أثر فكر.. عينه.. حادة كحورس، حانية كغزال، ترى ما خلف الغيب كزرقاء اليمامة، أنفه.. يشم المخاطر، فيستعد ولا يفر.. فمه.. يخرج منه الطيب فيعطر الأرض، ذقنه: على الحكمة تستند، وعلى العزم تدل، رقبته: شجرة كافور عتيقة.
أقسموا عليها ألا تهدم ما تغزل لأنه سيأتى، أشارت للمتربصين بها، طمأنوها: سنشغلهم بلعبة الكراسى الموسيقية، ستبقى الموسيقى دائرة، وهم سيظلون يدورون فى الوهم ومن يجلس منهم لن يعرف طعم الراحة، اغزلى أنت ونحن كفيلون بهم.
الفلاحون: سيملأ الدنيا عدلًا كما مُلئت جورًا.
قال القضاة: الشر والطغيان لن يكونا قادرين على الوقوف فى وجه قيادته.
قال الأطباء: سوف يبتلع الموت للأبد.
قال الكناسون: سوف يقوم جميع الموتى.
قال الموظفون: سيكون الفرد قادرًا أن يتكلم بفمه.
قالت النساء: سيعطيه الله كل رغبات قلبه.
قال الأطفال: سيملأ المرح أفواه الناس.
ومضت أزمنة وهم فى الانتظار: غاب الزمن الذى كانت فيه الآلهة تشارك البشر حياتهم، وراح الزمن الذى كان فيه الأنبياء يصلون السماء بالأرض، ورحل الزمن الذى كان فيه الأولياء لأجلهم يغاث الخلق.
وعاد الوقت الذى فيه الناس بين رجال ثلاثة، رجل يعلم ما يحدث ويوافق عليه، رجل يجهل تمامًا، ورجل يعلم بما حدث وإن كان لا يدرى إن كان خيرًا أو شرًا.
ألقيت القوانين فى العراء وديست فى الشوارع، ما من أحد يود أن يحرث من أجل نفسه، بعد أن أصبح الناس جميعًا يقولون لسنا نعرف ما سوف تأتى به هذه الدنيا. وذهب الناس إلى التماسيح من تلقاء أنفسهم. وقالت الدويلات: لن تستطيع مصر أن تأتى بشىء، فالرمال المحيطة بها هى كل حمايتها. وكتب أحدهم تويتة تقول «لو علمت أين الرب لعملت له».
وعلى الربابة صار المنشد يغنى كما فعل الأجداد
«أصبح الموت تجاهى اليوم – كالبرء للمريض- والخروج للخلاء بعد حجز.
أصبح الموت تجاهى اليوم- أشبه بعبير المر- وجلسة تحت ظلة - فى يوم ريح صر.
أصبح الموت تجاهى اليوم كأمنية امرئ يتطلع إلى موطنه- بعد سنين عدة فى الأسر»
وطال الوقت..
وأخيرًا جاء.. عندما لم يعد هناك صراع بين النور والظلمة، أو الخير والشر، وأضحى الصراع بين الباطل والباطل، كل طموحهم أن تكف الفرق المختلفة عن إشعال أيامهم فى آتون المعركة العبثية.
جاء بعدما أكل الضجر اللهفة، وسكن الروح السأم، وتكاثرت الجزر المتناثرة، وصار الحال أشبه بطبق كبير مملوء بالخبز الذى أصابه بلل، فلا الخبز ظل جافًا، ولا الماء بقى كى نشربه.
جاء.. لم يكن آتيًا على سحاب السماء، لكنه مع المشاة والحفاة والثكالى والمكلومين والمهضومة حقوقهم جاء، ترنمت له إيزيس التى لا تكل: إنك الملك الطيب، وإن قلبى لفى سرور، عندما تنير الأرض ببهائك مسحوه بالزيت، تعلقوا بثوبه. سألوه أن يشفى المرضى ويحيى الموتى ويقيم مملكة الرب.
انتظر منهم «امض لما أُمرتَ به فنحن معك»، قالوها فى الميادين وعلى المقاهى، وعند الفعل جلس الكل على صفحات تويتر وفيسبوك.
ولما لم تتغير الدنيا، أنكروه، تهكموا عليه، غامت الدلالات، حمّلوه كل الأوزار، أبلغوا عنه، صلبوه، واتخذوه هدفًا كى يعلموا أولادهم الرماية.
فى المساء عادوا وأحرقوا البخور وأضاءوا الشموع كى لا تتوه روحه عنهم وجلسوا يتسامرون فى انتظار من لن يأتى.