رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«النبى تجسّد».. عبدالناصر فى السينما.. كامل الأوصاف بلا أخطاء ولا خطايا


عندما قامت ثورة يوليو ١٩٥٢، اتخذت السينما وصانعو الأفلام فى مصر موقف المتريث والمترقب انتظارًا لما ستسفر عنه الأيام، حتى إنه مر موسم ١٩٥٣ البالغ عدد أفلامه ٦٢ فيلمًا دون ظهور فيلم واحد يؤيد أو يبارك الثورة، أو حتى يشير إلى مجرد قيامها.

فى الوقت نفسه، وبمجرد نجاح ثورة يوليو، طمس رجال الثورة صورة الملك فاروق فى الخلفيات، مثلما حدث فى أفلام «الأُسطى حسن»، و«غزل البنات» و«أنا بنت ناس» وغيرها، واختفت صورة فاروق من الأفلام حتى كانت صورته من خلال ظهره، وهو يؤدى التحية العسكرية، قبل مغادرة وطنه فى السادس والعشرين من يوليو، وهذا المشهد ليس مشهدًا تسجيليًا من جريدة مصر، كما هو شائع، وإنما مشهد تمثيلى من فيلم «الله معنا» الذى أخرجه أحمد بدرخان عام ١٩٥٤.
قصة هذا الفيلم تعود إلى نهاية عام ١٩٥٢، حين بدأ أحمد بدرخان العمل فيه بعد رئاسة محمد نجيب، واستغرق عام ١٩٥٣ كله فى إعداد الفيلم، الذى استوحى رحلة الضباط الأحرار حتى قاموا بطرد الملك فاروق، وكان السيناريو الأول معدًا بحيث إن قائد الثورة هو اللواء محمد نجيب، وقد قام «زكى طليمات» بتجسيد شخصية نجيب، لكن فجأة دب الصراع بين الرجلين القويين فى الثورة، وانفرد عبدالناصر بالحكم، وتغيّر السيناريو تمامًا، وتم محو دور محمد نجيب واختفى اسم «زكى طليمات» من عناوين الفيلم، وعُرض «الله معنا» فى ١٤ مارس عام ١٩٥٥، أى بعد عامين من بداية إنتاجه.
وقد تكرر الأمر نفسه فى فيلم «رد قلبى» الذى عُرض فى أواخر عام ١٩٥٧، عن رواية يوسف السباعى، أحد أفراد الدفعة التى تخرج فيها عبدالناصر فى الكلية الحربية، ومن إخراج ضابط من نفس الدفعة هو عزالدين ذوالفقار.
فيما يخص أول رئيس جمهورية، كانت الرواية التى نشرها السباعى عام ١٩٥٤ تتحدث عن أن محمد نجيب هو أول رئيس لمصر، وقد تواجد اللواء بقوة فى الرواية، ربما أكثر من عبدالناصر نفسه، إلا أن الرواية بدأ إنتاجها عقب العدوان الثلاثى، وكان عبدالناصر قد أمسك بزمام الحكم، وصار بطلًا قوميًا، بعد توقيع اتفاقية الجلاء، وتأميم قناة السويس، وما تحقق من انتصار سياسى بانسحاب القوات الغازية فى تاريخ ٢٣١٢١٩٥٦.
كان العرض الأول لفيلم «رد قلبى» قد تم تقريبًا بعد عام من نهاية العدوان، وكانت هناك فرصة أمام عزالدين ذوالفقار أن يمحو الحقيقة التاريخية المذكورة فى الرواية، وهى أن « محمد نجيب» هو أول رئيس للجمهورية، وأول قائد للضباط الأحرار.
وهكذا اختفى الرئيس الأول، ولم يتعمد الفيلمان إظهار عبدالناصر فى الحكاية بشكل مباشر، بل أظهرا ما يشبه القيادة الجماعية، تتمثل فى الضباط الأحرار.

أول صورة لـ«الزعيم» ظهرت فى خلفيات فيلم «عمالقة البحار»
حتى منتصف الخمسينيات لم تكن صورة جمال عبدالناصر تتصدر الشاشة، وكان على السينما أن تنتظر حدثًا عظيمًا، مثل العدوان الثلاثى، وقد تصدى لهذا الحادث أيضًا عز الدين ذوالفقار، الذى كتب القصة والسيناريو، وفى هذه الآونة كان الرئيس عبدالناصر هو الزعيم الأوحد والأول للبلاد، فهو الذى اتخذ قرار تأميم قناة السويس الذى أعقبه قيام وحدوث العدوان الثلاثى.
وفى فيلم «بورسعيد»، الذى تم عرضه فى يوليو ١٩٥٧، وقفت فتاة من بورسعيد (هدى سلطان) تسمى «وفية»، وبعد أن سمع الشعب كله خبر التأميم، طلت الفتاة من شرفتها، وإلى جوارها أسرتها، على أبناء حى العرب تغنى للناس، وتوجه كلامها إلى الزعيم وتطالبه بأن يؤمم القناة.. قائلة: «أمم جمال القناة».
بدأت صورة عبدالناصر تظهر فى خلفيات بعض الأفلام، وتغيرت الصورة من الضابط الشاب الذى يرتدى الزى العسكرى إلى صورته المدنية وهو يضحك، وقد ظهرت الصورة الأولى فى خلفيات فيلم «عمالقة البحار» إخراج السيد بدير عام ١٩٦٠، حول «معركة البرلس»، أما الصورة الثانية، فقد رأيناها فى خلفية الجدران لفيلم «وطنى وحبى»، وهو فيلم تدور أحداثه عن الوحدة بين مصر وسوريا، والاستخبارات، أخرجه حسين صدقى عام ١٩٦٠، إلى أن حدثت حرب اليمن، ورأينا الناس يحملون صورة عبدالناصر، وهم يستقبلون الجنود العائدين من اليمن فى فيلم «منتهى الفرح» لمحمد سالم ١٩٦٣.
فى بدايات حكم جمال عبدالناصر كان مجرد التلميح باسمه أو شخصه يعد من الممنوعات، ومن الأعمال التى تؤكد هذا الكلام، أفلام مثل: «شىء من الخوف»، الذى تحايل فيه مؤلفه «ثروت أباظة» بشخصية (عتريس) التى أداها «محمود مرسى»، ورغم أن «أباظة» فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، أنكر أن الفيلم أو شخصية «عتريس» لها علاقة سواء من قريب أو من بعيد بـ«ناصر»، وأن المقصود بها الاحتلال الإنجليزى وأذنابه حتى يمر الفيلم من بين أصابع الرقابة مرور الكرام ويتم عرضه بسلام، إلا أنه بعد وفاة الرئيس عبدالناصر، أكد أن المقصود بشخصية (عتريس) كان «جمال عبدالناصر»، كما كان «عبدالناصر» هو البطل الرمز فى «ميرامار» رائعة نجيب محفوظ و«المتمردون» و«الفتى مهران».
وما إن حلت نكسة ١٩٦٧ حتى خبا الصوت الغنائى لعبدالناصر، وظهرت أفلام تنتقد التجربة الثورية، إلى أن رحل عبدالناصر.
وبعد تولى محمد أنور السادات حكم البلاد، سمحت السلطات، خاصة بعد نجاح حركة ١٥ مايو ١٩٧١ بنقد مراكز القوى والنظام الناصرى، فظهرت موجة أفلام (الكرنكة) ومن أشهرها فيلم «الكرنك» ١٩٧٥، و«إحنا بتوع الأتوبيس» ١٩٧٩. وفى هذه الأفلام لم تكن هناك إدانة صريحة لشخصية عبدالناصر، ولكن كان هناك نفى لمعرفة ناصر بما يحدث، وإن كان هناك إحباط من الإيمان به وبتجربته، كما لجأت السينما لإدانة نظام حكم عبدالناصر.
وفى التسعينيات، وبالتحديد عام ١٩٩٤، عادت السينما المصرية للتعامل مع شخصية رئيس الدولة، فظهر فيلم الجاسوسة حكمت فهمى، قصة وسيناريو وحوار بشير الديك، إخراج حسام الدين مصطفى، ويظهر فى الفيلم الرئيس أنور السادات، الذى قام بدوره الممثل أحمد عبدالعزيز، فى دور رئيسى فى الأحداث.
بعدها بعام يظهر الملك فاروق فى فيلم آخر عام ١٩٩٥ هو «امرأة هزت عرش مصر»، إخراج نادر جلال، قصة رشاد كامل، معالجة درامية بشير الديك، يظهر فى الفيلم الضابط أنور السادات الذى قام بدوره الممثل جمال عبدالناصر، وفيه منح الكاتب لشخصية السادات دورًا بارزًا فى السياسة المصرية قبل ثورة يوليو، بينما تجاهل بشير الديك دور عبدالناصر تمامًا للمرة الثانية فى أفلام نادية الجندى، رغم اختلاف المخرجين هنا.

مبارك منع عرض «ناصر 56» قائلًا: «من يحكم مصر أنا ولا عبدالناصر؟».. وضغوط الدول العربية وراء الإفراج عنه
ما أن أتى عام ١٩٩٦، حتى يظهر جمال عبدالناصر بشكل واضح وصريح فى فيلم: «ناصر ٥٦». والفيلم ليس تسجيلًا روائيًا لحياة الرئيس جمال عبدالناصر، لكنه استقطاع لعدة أشهر من حكمه فقط خلال عام ١٩٥٦، التى اعتبرها الفيلم أهم وأخطر فترات قيادته مصر قبل وبعد «تأميم قناة السويس» باعتباره من أهم إنجازاته السياسية، حيث كانت شركة قناة السويس دولة داخل الدولة، وعندما سحب البنك الدولى عرضه فجأة بتمويل مشروع بناء السد العالى، أعلن جمال عبدالناصر تأميم القناة بميدان المنشية بالإسكندرية فى ٢٦ يوليو عام ١٩٥٦، مما أدى لحدوث العدوان الثلاثى على مصر، ليعلن جمال عبدالناصر فى خطابه بالجامع الأزهر، المقاومة والكفاح للتصدى للأعداء.
يتناول الفيلم حياة عبدالناصر بين وزرائه ومكتبه وخطبه وعلاقاته بأعضاء مجلس قيادة الثورة، ثم بوالده، وزوجته، وأولاده الصغار الأربعة. قام ببطولة الفيلم الممثل أحمد زكى، وتم عرضه باللونين الأبيض والأسود فى ٥ أغسطس ١٩٩٦، والفيلم من تأليف محفوظ عبدالرحمن وإخراج محمد فاضل.
وقد كشف السيناريست محفوظ عبدالرحمن عن أهم الكواليس التى دارت داخل هذا العمل فقال: «(ناصر ٥٦) كان فى الأصل حلقة تليفزيونية ضمن مجموعة سهرات عبر الرموز التى صنعت تاريخ مصر، وقتها عرضت على وزير الإعلام تحويل هذه السهرة إلى فيلم وفوجئت بموافقته، خاصة أن هناك تعتيمًا على ظهور عبدالناصر فى أى عمل فنى منذ عصر السادات، وامتد هذا الأمر لعصر مبارك، وتحمس الفنان الراحل أحمد زكى للفيلم وتم تصويره، وبمجرد عرض الفيلم فى افتتاح مهرجان القاهرة، طلب الرئيس مبارك أن يراه وبعدها مُنع عرض الفيلم، وقال معترضًا على الفيلم: (من يحكم مصر.. أنا ولا عبدالناصر؟)».
وأضاف محفوظ عبدالرحمن، أن «الفيلم ظل فى خزينة رئاسة الجمهورية ومُنعت أنا والمخرج محمد فاضل من رؤيته، لكن بعد الضغوط من جانب الدول العربية للمطالبة بعرض الفيلم بعد أن ذاع صيته، اضطر المسئولون فى النظام السابق إلى عرضه فى دور العرض السينمائى، وبالرغم من نجاحه وتحقيقه إيرادات عالية، إلا أن الفيلم تم رفعه من السينمات بعد فترة قصيرة لم تتعد الشهر».
وأشار عبدالرحمن إلى أنه لم يقدم سيرة ذاتية لجمال عبدالناصر بالفيلم، لكنه قدم مرحلة وحدثًا مهمًا فى حياته المليئة بالأحداث المهمة، التى شكلت جزءًا مهمًا من تاريخ مصر وأنه مؤمن بأن الفيلم السينمائى لا يمكن أن يقدم سيرة ذاتية لأى شخصية خاصة إذا كانت بحجم جمال عبدالناصر.
وقد صاحب عرض الفيلم (ناصر ٥٦) حملة إعلانية ضخمة منذ الإعلان عن بدء الإعداد له، وبعد عرضه الخاص أثار عاصفة صحفية، إذ كُتب عن الفيلم الكثير من المقالات النقدية والتحقيقات الصحفية. أما عرضه الجماهيرى الذى بدأ فى الثالث من أغسطس ١٩٩٦، فقد حطم الأرقام القياسية لشباك التذاكر، إذ اجتذب الفيلم مليونى متفرج إلى دور العرض فى الأسابيع الثلاثة الأولى، التى تلت العرض الافتتاحى. وقد بدأ عرض الفيلم ليتزامن مع الذكرى الأربعين للتأميم، وأعاد بذلك الجدل الطويل بشأن الدور التاريخى للرئيس الراحل ما بين معارض ومؤيد.
ويرى الناقد السينمائى حسن حداد، أن الفيلم أتاح لشباب الجيل الحالى الذين لم يعاصروا عبدالناصر، والذين يمثلون ٧٠٪ من جمهور الفيلم، الفرصة للتعرف عليه بسرعة وبسهولة وبأسلوب شيق عن طريق ساعتين ونصف الساعة على شاشة السينما بدلًا من قراءة الكتب والعودة إلى المراجع، لذلك كان للفيلم معنى مختلف فى حياة هذا الجيل، فالفيلم جاء عن رجل أضاء فى تاريخ الأمة ثمانية عشر عامًا بكل ما لم تكن تحلم به من عزة وكرامة وشموخ وصدام مع الأقوياء. وأن المخرج قد اختار تصوير الفيلم بالأبيض والأسود رغبة منه فى الحفاظ على الانسجام فى متن الفيلم ودمج اللقطات المأخوذة عن الأفلام الوثائقية دمجًا عضويًا بباقى المشاهد، كما أنه نجح فى تحويل الساعات الطويلة التى سبقت اتخاذ القرار الفاصل إلى لحظات مليئة بالتوقع والترقب عبر تقديم عرض دقيق لردود الفعل وتصاعد الموقف حتى لحظة الحسم، رغم أنها معظمها يدور فى مكان واحد، هو مكتب الرئيس.
وعن تجربة الممثل أحمد زكى فى فيلم «ناصر ٥٦»، يحكى قائلًا: «إنه شاهد جمال عبدالناصر مرة واحدة أثناء مروره بالقطار فى بلدته، وكان الرئيس يحيى الجمهور وكان مشهد تحية الجماهير لم يفارق ذهن أحمد زكى وتمنى تجسيده من وقتها، فمع اختلاف لون البشرة واختلاف الملامح ورفض أحمد زكى الماكياج الخاص بالأنف، إلا أنه أدى الدور ببراعة من خلال حركة وطريقة كلامه وبساطة وتواضع الرئيس عبدالناصر دون زيف أو مبالغات».
وبعدها بعامين، ظهر فيلم «جمال عبدالناصر» ١٩٩٨، فقد عمل هذا الفيلم على توثيق حياة الرئيس المصرى الراحل وما حفلت بها فترة حكمه من أحداث كبيرة، وقصة حياته منذ ولادته إلى تفجيره الثورة إلى هزيمة ١٩٦٧، وخلافه مع عبدالحكيم عامر، ثم تخطيطه لحرب الاستنزاف، ثم إلى موته المفاجئ فى ١٩٧٠.
و«جمال عبدالناصر» من الأفلام الطويلة، تأليف: إيهاب إمام، وقصة وسيناريو وحوار وإخراج: أنور قوادرى. بطولة: خالد الصاوى، وهشام سليم، وطلعت زين، وعمرو عبدالجليل وعبلة كامل.
وعلى الرغم من توافر عوامل النجاح المطلوبة للعمل، مثل الممثل خالد الصاوى فى دور «عبدالناصر»، كما عاونه الفنان هشام سليم فى أداء دور «عبدالحكيم عامر»، والفنانة عبلة كامل فى دور «تحية عبدالناصر»، وجميل راتب فى دور الرئيس «محمد نجيب»، إلا أن تلك العوامل لم تشفع لنجاح الفيلم. فقد ظهرت شخصية السادات بشكل هامشى، وجسد الشخصية طلعت زين، ومن المعروف موقف السوريين من السادات بسبب توقيع معاهدة كامب ديفيد، لذا، فإن السادات هنا، يبدو أقرب إلى الكاريكاتير، يضع البايب فى فمه، ويكاد يكون شخصًا ثانويًا فى حياة عبدالناصر، خاصة فى الفترة التى يتوقف عندها الفيلم، أى ما بين عام ١٩٣٥ و١٩٧٠. وفى هذا الفيلم كان هناك تركيز على شخصيات أخرى أكثر قربًا من ناصر، مثل: «عبدالحكيم عامر».

جمال فى الأفلام: ذكى.. متحرر من الأفكار التقليدية.. ويتمتع بروح الدعابة وسمة ضبط النفس
بتحليل شخصية الرئيس جمال عبدالناصر، كما ظهرت فى فيلمى: ناصر ٥٦ وجمال عبدالناصر نجد أن الرئيس جمال عبدالناصر اتسم بعدد من سمات الشخصية.
من الناحية العقلية، نجد أن الرئيس عبدالناصر اتسم بالذكاء العام كما فى فيلم (جمال عبدالناصر)، حيث دللت إجابته «أنا لا أكره الإنجليز، ومعجب بإنجلترا»، كما أظهر الفيلم فى مشهد واحد قدرة الرئيس على الدعابة عندما حذره الرئيس السورى شكرى القواتلى من أن الشعب السورى نصفه زعماء والنصف الآخر يعتقدون أنهم أنبياء، فقال له وهو يضحك «وما قلتلناش ليه قبل ما نمضى».
كما اتسمت شخصيته بالتحرر العقلى من الجمود والثبات، بمعنى التفكير الحر وعدم التقيد بالأفكار الثابتة، حيث شارك عبدالناصر فى الكفاح الوطنى ولم يتقبل بقاء مصر تحت الاحتلال. أو مقولة تفوق الجيش الإسرائيلى.
وبرزت سمة «الذاكرة القوية» حيث ورد فى فيلم «ناصر ٥٦» تذكر الرئيس جمال عبدالناصر لكتاب ألفه الاقتصادى الكبير طلعت حرب عام ١٩٢٠ يفند فيه دعاوى ومزاعم تمديد امتياز القناة للإنجليز حتى عام ٢٠٠٨، وكذلك تذكره واستشهاده بالأحداث التاريخية مثل الثورة الفرنسية وكتابات فولتير بفيلم «جمال عبدالناصر».
وفيما يخص السمات النفسية اتسمت شخصية الرئيس عبدالناصر بـ«قوة الأنا» التى تشير إلى التوافق مع الذات ومع المجتمع والخلو من الأمراض العصبية والإحساس الإيجابى بالكفاية والرضا.
واتصف عبدالناصر بسمات الشخصية الانبساطية، وقد أعطى يونج Yung، تعريفًا للشخص المنبسط بأنه «ذلك الشخص الذى يُقبل على الدنيا فى حيوية وعنف وصراحة ويصافح الحياة وجهًا لوجه ويلائم بسرعة بين نفسه والمواقف الطارئة، ويعقد بين الناس صلات سريعة فله أصدقاء أقوياء وأعداء أقوياء لا يحفل بالنقد، ولا يهتم كثيرًا بصحته أو مرضه أو هندامه وبالتفاصيل والأمور الصغيرة، ولا يكتم ما يجول فى نفسه من انفعال. ويفضل المهن التى تتطلب نشاطًا وعملًا واشتراكًا مع الناس».
وقد تميز الرئيس جمال عبدالناصر بسمات الشخصية الانبساطية، حيث أشار ويلتون واين صاحب كتاب «عبدالناصر.. قصة البحث عن الكرامة» إلى أن «روح الفكاهة عند الرئيس عبدالناصر تؤلف جزءًا من سحر شخصيته، إنه ليس مقزعا، لكنه يملك نصيبا من روح الفكاهة التى يتميز بها شعب وادى النيل. إن سحر شخصية عبدالناصر يفتن كل من يقابله، وأنا لا أذكر أننى رأيت رجلا تحدث إليه، ثم خرج من عنده وهو غير معجب به، وقد تجرى حديثا معه فيقنعك دائما بوجهة نظره، حتى إذا فارقته، وتحررت من سحر شخصيته، بعد ساعة أو ساعتين، فقد تجد نفسك تختلف معه فى الرأى أما أثناء سماعك الحديث فلا بد لك من الاقتناع بما يقول».
واتسم «عبدالناصر» بسمة ضبط النفس المرتبطة بمنع النفس من التصرف بالخطأ فى المواقف الطارئة والمفاجئة التى تتطلب قدرًا من الشجاعة والحكمة وحسن التصرف وبرزت سمة «صلابة العُودُ»، المرتبطة بالشّخصُ الشديد والقوى. وكان لدى عبدالناصر سمة الاكتفاء الذاتى التى تجعل الشخص له قراراته الخاصة ويتخذها منفردا دون انتظار لدعم الآخرين أو رأيهم.
كما اتسمت شخصية الرئيس جمال عبدالناصر بالقلق، ولهذا كان الرئيس السادات يقول إن «الفرق بينه وبين الرئيس عبدالناصر أن عبدالناصر قد وضع تليفونات كثيرة على مكتبه والراديو.. ولذلك فهو متوتر دائما وينتظر الأخبار المحلية والدولية. يصحو وينام عليها».
وفيما يخص السمات الاجتماعية أظهرت دراسة أن هناك عدة سمات اجتماعية هى: قوة الأنا الأعلى، أى قوة الضمير فى التزام الشخص بالقواعد، والمعايير الداخلية، سمة الاستقلال التى تعنى افتراض مسئولية الشخص عن أفعاله وعدم الميل لمسايرة الآخرين، وسمة المغامرة، وسمة السيطرة.

المقومات الشخصية: واثق من نفسه مستقيم.. يحظى برؤية مستقبلية واضحة ودقيق فى كل شىء
أظهر تحليل الفيلمين تحلى الرئيس عبدالناصر بعدد من المقومات الشخصية التى يجب أن يتصف بها رئيس الدولة وهى:
- مقوم الثقة بالنفس، وتُعرف الثقة بالنفس بأنها حسن اعتماد المرء بنفسه واعتباره لذاته وقدراته حسب الظرف الذى هو فيه (المكان، الزمان) دون إفراط (عجب أو كبر أو عناد) ودون تفريط (من ذلة أو خضوع غير محمود).
- مقوم النظام والتخطيط الجيد ويتمثل فى الرؤية الواضحة المستقبلية وحصر الأهداف المطلوبة بدقة وانتقاء الوسائل الممكنة بعناية وتوزيع الأدوار بين المشاركين فى الخطة ومتابعة السير وتقويمه إلى النهاية. وكان الرئيس جمال عبدالناصر يتصف بالنظام، حيث تقول زوجته السيدة تحية إنه «كان منظما فى كل شىء»
- مقوم الانضباط، وقد توفر مقوم الانضباط لدى الرئيس جمال عبدالناصر نتيجة للتربية العسكرية وانتمائه لمؤسسة الجيش التى تربى على الانضباط، والتى تعتمد على قمع النزعات السلبية والرغبات الشريرة، ويقوم على قوة الإرادة والعزم والتحكم فى النفس وعدم الانصياع للأهواء، وقد ظهر الرئيس السادات بشكل أقل انضباطًا نتيجة لانخراطه فى النشاط الوطنى وقيامه بعمليات ضد المتعاونين مع الإنجليز مما أدى لرفضه من الجيش، لكن يمكن القول إن انضباط السادات تجاه الوطنية المصرية كان أكبر من انضباطه العسكرى، فى حين كان الرئيس جمال عبدالناصر الأكثر حنكة وروية فى نضاله الوطنى.
- مقوم الاستقامة، وقد رفض الرئيس جمال عبدالناصر معاكسة صديقه عامر فتاة أثناء سيرهما فى الشارع، رفضه للحلول الوسط فيما يتعلق بتأميم القناة، رفضه إعدام الملك فاروق.. فى فيلم «ناصر ٥٦».
- مقوم الدقة وظهر فى متابعة الرئيس جمال عبدالناصر لتفاصيل عملية تأميم القناة وتحديد كلمة معينة لتكون كلمة السر.
- مقوم النزاهة، وجاء معناها فى المعجم الوسيط بمعنى البعد عن السوء وترك الشبهات والـتَّنَزُّه بأن يرفع نفسه عن الشَّىء تكرُّمًا، ورغبة عنه. ففى فيلم «ناصر ٥٦» رفض الرئيس جمال عبدالناصر إرسال كروت معايدة لأولاده بالحقيبة الدبلوماسية، ورفضه استغلال الإنشاءات العسكرية لإقامة حمام سباحة فى بيته.
وأظهر الفيلمان تمتع الرئيس عبدالناصر بكل الصلاحيات المتاحة لرئيس الدولة، فبالنسبة للصلاحيات التنفيذية، فى فيلم «ناصر ٥٦» قرر الرئيس عبدالناصر إنشاء التليفزيون المصرى، وبناء السد العالى، وافتتح مجمع تكرير البترول.
وبالنسبة للصلاحيات العسكرية: اتخذ الرئيس جمال عبدالناصر قرار سحب القوات المصرية من سيناء فى حرب ٥٦، وقرار تغيير وزير الدفاع المشير عامر وتعيين الفريق محمد فوزى وزيرا للدفاع وقائدا عاما للجيش، وإعادة بناء الجيش المصرى بعد نكسة ٦٧، وقرار حرب الاستنزاف وهذه الصلاحيات مخولة له من قبل دستور ١٩٥٦.
والأمر ذاته من الناحية التشريعية، وقد تمثل ذلك فى إصدار الرئيس قرارات لها قوة القانون، ففى فيلم «ناصر ٥٦» أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرارا بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس وهو قرار له قوة القانون. وتناول فيلم «جمال عبدالناصر» قوانين الإصلاح الزراعى.
وحين نتحدث عن علاقة الرئيس بعائلته والمحيطين به، نجد أنه فى فيلمى «ناصر ٥٦» و«جمال عبدالناصر» شغلت العلاقات الأسرية مساحة قليلة، واقتصرت على مشاهد أظهرت أسرة الرئيس: زوجته السيدة تحية عبدالناصر وأبناءه ورغم قلة هذه المشاهد إلا أنها أوضحت الدور المعنوى الذى لعبته السيدة تحية فى حياة الرئيس ناصر بتوفير الجو الهادئ له وتحملها مشاغل الأولاد وتخفيف الضغوط عن كاهله.
وفى فيلم ناصر ٥٦، ظهرت علاقة الرئيس عبدالناصر بالمسئولين عن مكتبه، والوزراء فى حكومته وأعضاء مجلس قيادة الثورة وعلاقته بمدير مكتبه محمود الجيار وسكرتيره، سامى شرف، والمهندس محمود يونس المسئول عن تنفيذ عملية تأميم القناة، وعلاقته بالكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، وعلاقته بالرئيس تيتو رئيس يوغسلافيا. وإن كانت علاقته بالمساعدين أقل فى فيلم «جمال عبدالناصر»، وظهرت مساحة أكبر لبعض المساعدين مثل أنور السادات الذى أوفده فى أكثر من مهمة داخلية وخارجية.
وقد أظهر الفيلمان أن أداء الرئيس اتسم بالعقلانية والثبات الانفعالى وضبط النفس فى معظم مشاهده عدا عدة مواقف لا تزيد على ٨٪ من مشاهد الرئيس بالفيلم وقد انفعل خلالها الرئيس عبدالناصر ويمكن تقسيم هذه الانفعالات إلى:
- انفعالى حماسى: تواجد فى مقدمة خطاب تأميم قناة السويس، «مش عيب إن أكون فقير واستلف العيب إنى أمتص دم الشعوب»، وخطابه فى الأزهر بعد العدوان الثلاثى «سنحارب.. سنحارب والله أكبر» فى فيلمى «ناصر ٥٦» و«جمال عبدالناصر».
- انفعال بحزن: جمال عبدالناصر «إذا ما سندتوش إزاى أحارب به» متحدثا عن العساكر فى الثكنة العسكرية، «الشعب ده غريب كان المفروض يشنقنى فى ميدان عام» فى فيلم «جمال عبدالناصر»؛ كما قال الرئيس أنور السادات: «دى البراءة الوحيدة التى لم أفرح بها» فى فيلم «أيام السادات».
- انفعال بغضب: انفعال الرئيس عبدالناصر من فيلم جمال عبدالناصر: «هات جناح طيارة مكتوب عليه علم أمريكا، وأنا أقول أمريكا مشاركة فى الهجوم»، «إنت فاكر مصر عزبة جمال عبدالناصر»؛ ويشكو الرئيس السادات بفيلم «أيام السادات» من «قسوة معاملة الضباط له فى الحبس»؛ وأبدى انزعاجه الشديد من الممارسات الإسرائيلية، قائلًا «بلغ بيجين احتجاجى الشديد على ضم القدس».

حاسم فى التعامل مع الأزمات.. ليس عنيدًا ولا يفرض رأيه بالقوة.. ويسمع آراء من حوله دون شرط الالتزام بها
أظهر الفيلمان تنوع ردود فعل الرئيس عبدالناصر على المواقف الضاغطة، التى تعرض لها ويمكن تصنيفها كما يلى:
- استراتيجية الحسم فى التعامل مع الأزمة: قرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس بعد رفض البنك الدولى تمويل بناء السد العالى، الانسحاب من اجتماعات لجنة مينز، رفض السفر لمؤتمر لندن، قبول صفقة الأسلحة التشيكية، تحديد إقامة المشير عامر، تغيير قادة الجيش بعد النكسة.
- استراتيجية التراجع والاستسلام: قبول الرئيس عبدالناصر برفض الوحدة من جانب الانقلابيين فى سوريا ورفضه إرسال قوات مصرية لفرض الوحدة، والتراجع عن التنحى.
- استراتيجية إجهاض الفكر الصانع للأزمة: قبول عبدالناصر مبادرة روجرز للتمكن من إعادة بناء الجيش المصرى بعد النكسة، دعوة الرئيس عبدالناصر كلا من الزعيم الفلسطينى عرفات والملك حسين للتصالح لإنهاء الخلافات الأردنية الفلسطينية.
وبالنسبة لأسلوب تعامل الرئيس مع معارضيه، فلم يظهر الفيلمان وجود معارضة حقيقية منظمة ذات خطة واستراتيجية واضحة، ولم تكن هناك مواجهة بين الرئيس والمعارضة. وكان أسلوب الاحترام حاضرًا، حيث كان الرئيس عبدالناصر يأخذ رأى زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، ويستمع لرأيهم المعارض لقرار التأميم ويطرح وجهة نظره لهم وينتهى الموقف وقد اقتنعوا وأيدوا قراره، فيمكن القول إنه مجرد اختلاف فى الرأى لا يصل إلى حد الخلاف والمعارضة ومن ثم فقد أظهر الفيلمان (ناصر ٥٦، جمال عبدالناصر) احترام الرئيس جمال عبدالناصر لآراء رفاقه المختلفة عن رؤيته لأنها لم تقف عائقا دون تنفيذ قراراته وسياسته.
ومع هذا، ففى فيلم ناصر ٥٦ ظهر تجمع رموز النظام الملكى السابق من إقطاعيين وباشوات ووزراء، يعبرون عن رفضهم قرارات عبدالناصر دون أن تصل هذه المعارضة له، وهو يأخذ قراراته دون أن يضعهم فى اعتباره، كما رفض جمال عبدالناصر إعدام الملك فاروق أو محاكمته ووافق على نفيه للخارج حتى لا يتحول إلى شهيد، كنوع من التجاهل والاستعلاء. ولكن مع معارضة البنك الدولى ومن خلفه أمريكا وإنجلترا لتمويل السد العالى، ناصبهم العداء بإعلانه تأميم الشركة العالمية لقناة السويس، كما فى فيلم (ناصر ٥٦). وعندما طالب محمد نجيب بعودة الضباط الأحرار إلى الثكنات وعودة الديمقراطية تم اعتقال محمد نجيب وتحديد إقامته. وبعد نكسة ٦٧ أمر بعزل صديقه المشير عبدالحكيم عامر، وعندما علم بتدابير عامر بالجيش ومحاولة الانقلاب عليه، ناصبه العداء وأمر باعتقاله وتحديد إقامته فى بيته.
وقد استخدم صانعو الفيلمين عددا من الأطر لرسم صورة الرئيس عبدالناصر، وجاءت كما يلى:
- الرموز البصرية والصوتية: جاءت فى مقدمة آليات الأطر الإعلامية المستخدمة لرسم صورة الرئيس، كاستخدام اللقطات المقربة جدا للتركيز على وإبراز انفعالات الرئيس، وتثبيت حركة الكاميرا عند إعلان الرئيس عن قرار هام مؤثر، واختيار تصوير الرئيس من زاوية منخفضة لإظهار عظمته وشموخه، وظهر هذا جليًا فى مشاهد خطاب تأميم قناة السويس وخطاب الجامع الأزهر، بجانب استخدام الموسيقى التصويرية المؤثرة والمنبهة فى المواقف الضاغطة التى يمر بها الرئيس. واستخدام الصمت وانسحاب الموسيقى فى مشاهد الحزن والتفكير حيث ظهر الرئيس عبدالناصر فى مشهد مع عائلته قبل ذهابه للقاء خطاب التنحى وكان الحزن يثقل كاهله ولم ينطق أحد أو الرئيس لكن زوجته مسكت يده وضغطت عليها. واستخدام الإضاءة المعتمة، ففى المشاهد التى تلت خطاب التنحى بفيلم «جمال عبدالناصر» يظهر وجه الرئيس عبدالناصر نصف مضاء وهو يظهر حزنه وندمه بسبب الهزيمة وكيف أنه توقع أن يشنقه الشعب فى ميدان التحرير بدلا من الخروج لمنعه من التنحى.
- البناء التركيبى للفيلم: اهتم البناء التركيبى للفيلم بإظهار مراحل نمو وتطور شخصية الرئيس فى فيلم «جمال عبدالناصر»، حيث اعتمد السيناريو على البناء الخطى وبدأت الأحداث عام ١٩٣٥ وانتهت مع وفاة الرئيس عبدالناصر ١٩٧٠، فى حين ركز فيلم «ناصر ٥٦» على فترة عامين تقريبًا من عام ١٩٥٤ حتى تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى على مصر ١٩٥٦.
- مساحة شخصية الرئيس: احتل الرئيس معظم مشاهد فيلمى «ناصر ٥٦» و«جمال عبدالناصر». حيث الرئيس يظهر فى معظم مشاهد «فيلم جمال عبدالناصر» عدا القليل منها التى كان الكلام يدور فيها عن الرئيس على لسان خصومه من الإنجليز والإسرائيليين.
- التلميحات الاجتماعية: فى فيلم «ناصر ٥٦» أظهر الفيلم تفهم الرئيس للتقاليد المصرية الصعيدية عندما قدم العزاء للسيدة التى أعطته ثوب جدها الذى مات فى حفر قناة السويس، وفى فيلم «جمال عبدالناصر»، أظهر الفيلم الأصول البسيطة للرئيس عبدالناصر عندما قال مدير الكلية الحربية: «ابن البوسطجى هيبقى ضابط».
- التعاطف: فى فيلم «ناصر ٥٦» استخدم الفيلم آلية التعاطف من خلال مشاهد الرئيس مع أولاده التى تظهر انشغاله الدائم بمصالح البلد، وأن أمنيته أن يطول به العمر كى يشهد زواج أبنائه أو على الأقل ابنته الكبيرة هدى، وقد تكررت هذه الآلية فى فيلم «جمال عبدالناصر» واستخدم الفيلم مرض الرئيس وتحامله على نفسه فى العديد من المواقف كأداة للتعاطف مع شخصية الرئيس.