رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: مصير الأسد في مفاوضات واشنطن


كانت الأقدار رفيقة بنا بعد 30 يونيو.

وقبل أن تتعجب، فأى أقدار تلك التى كانت رفيقة، والعالم كله يقف فى الضفة الأخرى، بعضه لا يفهم ما يحدث على أرضنا، وبعضه يتربص بنا.

كانت القضية عادلة، والجميع ظالمين.

لو اجتمع العالم على قلب رجل واحد ودعمنا، كنا تشككنا فى الحق الذى كنا نملكه، لكن حالة العداء التى أبداها لنا الكثيرون وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، أكدت لنا أننا نسير على الطريق الصحيح.

كان يمكن أن يتوفر لنا كثير من الجهد وكثير من المال فى حربنا ضد الجماعة المارقة، التى جرَّت فى قدميها جماعات أكثر إجرامًا وأشد إرهابًا، لكن الأقدار منحتنا فرصة أن ندخل المعركة وحدنا، وننتصر فيها وحدنا، وبعدها لم يكن أمام العالم إلا أن يعترف بأننا كنا على صواب، والإرهاب الذى وقفوا إلى جواره، ارتد إلى صدورهم.

لم يكن باراك أوباما نصيرًا للديمقراطية، ولكنه كان جاهلًا تمامًا بما لا يعرف ولا يدرك مخاطره، يمكن أن نسلم أن مشروعه فى المنطقة تفتت على صخرة 30 يونيو، وهو ما جعله يأخذ منا موقفًا عدائيًا وبشكل كامل، لكننا لا يمكن أن نتجاهل أيضًا أنه كان متعنتا أكثر مما ينبغى، وغافلًا أكثر مما يجب، وهو ما جعله يخسر كثيرًا، لأنه وقف ضد إرادة شعب قرر مصيره فى لحظة أدرك فيها أن وطنه يتم اختطافه.

لو وقف العالم إلى جوارنا، سلم لنا من اللحظة الأولى لمعركتنا مع الإرهاب، ما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، ولكان عبدالفتاح السيسى بطل المعركة الحقيقى فى 30 يونيو زائرًا عابرًا وعاديًا إلى البيت الأبيض.



السيسى انتصر فى معركة الإرادة عندما انحاز كقائد للجيش إلى الشعب الثائر الذى قرر أن يخلص نفسه من كابوس حكم الإخوان المسلمين.

والسيسى انتصر فى معركة البقاء، عندما انتبه مبكرًا جدًا، وطلب من الشعب تفويضًا لمواجهة الإرهاب المحتمل، ومن يومها وهو يهب نفسه لمعركة كان يعرف جيدًا أنها ستطول، وكنا نعرف من خلفه أنها ليست نزهة.

والسيسى انتصر أيضًا فى معركة البناء، فمنذ اليوم الأول له فى الحكم، وهو يتابع بنفسه المشروعات التى نرجو أن تكون سببًا فى أن يعم الخير على المصريين جميعًا.

كل ذلك جعل السيسى يذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يقف على أرض ثابتة وصلبة، يجلس مع ترامب، سيد البيت الأبيض الجديد، لا ليعرض قضية بلاده، فقد حسمها هو، ولكن ليتحدث فى القضايا التى أصبح لاعبًا رئيسيًا فيها، وهو دور استرده بدبلوماسية ظلت خفية وسرية على الجميع، فلم يكن الرجل الذى يتباهى بما يفعل .. هو الآخر يهتم بالنتائج ولا يلتفت كثيرًا إلى التفاصيل.

استقبال الدوائر السياسية الأمريكية للسيسى ومن ورائها وسائل الإعلام التى لا تعمل من فراغ أبدًا، يشير إلى نمط مختلف من العلاقات بين الدولة التى انتصرت لنفسها، والدولة التى لا تحترم إلا الأقوياء، وهو ما يجعل التفاوض سهلًا سواء فيما يخص الملفات الاقتصادية أو الملفات السياسية.

لكن تظل هناك ملفات أعتقد أنه سيكون فيها كثير من الحرج، ليس لأن هناك اختلافًا بين وجهتى النظر المصرية والأمريكية فيها، ولكن لأنها بالأساس ملفات معقدة ومتشابكة، تتقاطع فيها الأطراف المتناقضة.

وهنا يمكن أن نتوقف عند ملفين حملهما معه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حقيبته إلى واشنطن.

الملف الأول هو الملف السورى.

لست فى حاجة لتأكيد مدى حساسية هذا الملف، فمن يتحدث عنه وفيه يسير على جسر من الشوك، فما بالك بمن يتحرك فى اتجاه الحل.

فى 16 مايو 2012، كانت قمة الملهاة التى أوقعنا فيها الرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسى، عندما أعلن الحرب على النظام السورى، وقطع العلاقات الدبلوماسية معه، ودعا إلى فتح باب الجهاد، وهو الإجراء الذى حظى بتأييد وتصفيق من جماعة الإخوان، التى لم تكن تعرف أى معنى لأدوار الدول الكبرى، ولا أى قيمة للأمن القومى المصرى.

كانت المفاجأة مربكة، مرسى كان يتوهم طوال الوقت أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، تحدث وكأنه قائد الجيش، وبعد أن يفرغ من تصريحاته العنترية فلابد أن يتسابق الجميع لتنفيذ ما يريد، لم يكن يعرف أن ما قاله مّثل صدمة هائلة للمؤسسة العسكرية، التى تعرف قيمة أن تظل الدولة السورية موحدة وواقفة على قدميها.

منذ اللحظة الأولى للرئيس عبدالفتاح السيسى فى قصر الاتحادية، وموقفه واضح وثابت، فهو مع الدولة السورية، وليس مع الجماعات المأجورة التى تدعى ظلمًا وزورًا وبهتانًا أنها جماعات معارضة.

لم يكن بشار الأسد فى يوم من الأيام حجر الزاوية فى أى حديث مصرى، كانت الدولة السورية وحدها هى الأساس وعمود الخيمة الذى يجب ألا نفرط فيه أبدًا.

ما يعرضه السيسى فى البيت الأبيض أمام دونالد ترامب فيما يخص الملف السورى واضح بوضوح موقف مصر من القضية وتبعاتها وما وصلت إليه.

فى أوراق السيسى خطة واضحة تقوم على كسب المزيد من التأييد الأمريكى لمواجهة وحصار تنظيم «داعش» الإرهابى، ثم ــ وهذا على نفس الدرجة من الأهمية ــ إيقاف سيل المساعدات التى تتلقاها بعض الجبهات التى تصنف نفسها على أنها معارضة، وهى مساعدات تصلها من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان يدعمها ويواصل على استمرارها الرئيس السابق باراك أوباما، الذى كان يتعامل مع بشار الأسد على أنه قضيته الشخصية المباشرة.

الحرج فى هذا الملف يبدو واضحًا، فالولايات المتحدة الأمريكية تعرف موقف الرياض جيدًا من قضية بشار الأسد، فقد ظلت إزاحته تمامًا عن المشهد السياسى بالنسبة لها قضية حياة أو موت، ربما تزحزح هذا الموقف قليلًا، لكن لا يزال فى النفوس شىء لم يغادرها، ولأن السعودية حليف قوى للولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها حليف قوى لمصر، وقد بدأت العلاقات تتحسن فى أعقاب القمة التى عقدها الملك سلمان مع السيسى على هامش قمة البحر الميت، فمن المتوقع أن يطول النقاش حول قضية سوريا.

لا خلاف بين مصر والسعودية على مبدأ وجود حل سياسى للأزمة السورية، لكن الخلاف يأتى على وهن فى بعض التفاصيل.

ترى القاهرة أن الحل السياسى فى سوريا يمكن أن يحقق طموح الشعب السورى فى استعادة وحدة وطنه وسلامته، فى أن يتمتع مرة أخرى بمؤسسات حاكمة قوية تستطيع أن تقف أمام الخطر الذى تشكله الجماعات الإرهابية والتنظيمات الممولة من الخارج.

وعندما تقترب من الصورة أكثر، ستجد القاهرة تسند ظهرها فى رؤيتها إلى ضرورة بناء دولة مدنية ديمقراطية سورية حقيقية، وقبل ذلك التصدى للتنظيمات الإرهابية التى جعلت من سوريا منصة انطلاق للبلاد المجاورة، ومن بينها مصر بالطبع.

هذه الرؤية تتفق فيها مصر تمامًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهى رؤية لا تفصح عن ضرورة بقاء بشار الأسد فى القلب منها، لأنه سيكون قادرًا على مواجهة التنظيمات الإرهابية التى لم تقدر عليه خلال السنوات الماضية رغم كل الدعم الذى حصلت عليه، لكنها تقول هذا ضمنيًا.

الرأى المجمل يحتاج إلى تفصيل.

قبل أيام ألمح المتحدث باسم البيت الأبيض «شون سباسير» إلى أن زوال رأس النظام السورى بشار الأسد لم يعد ضمن أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة.

كان «شون» يتحدث إلى عدد من الصحفيين فى مؤتمر عام، سأله أحدهم عن موقف الرئيس ترامب من شرعية الأسد، فقال: هناك واقع سياسى علينا أن نتقبله عندما يتعلق الأمر بما هو الوضع عليه الآن فى سوريا.

لم يكن هذا كل ما خرج عن الإدارة الأمريكية، فالمبعوثة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكى هيلى، سبق أن قالت: إن أولوياتنا لم تعد التركيز على إزالة الأسد، رغم أننا نعلم فظاعة ممارسات النظام السورى.

حدد نظام ترامب مبكرًا جدًا أولوياته، إنه يرى الإرهاب عدوه الأول والأخير.

أثناء حملته الانتخابية قال ترامب بوضوح، إنه لا يحب بشار الأسد، لكن تعزيز نظامه هو الطريق الأفضل للقضاء على التطرف الذى ازدهر فى فوضى الحرب الأهلية.. وهو تطرف فى النهاية يهدد الولايات المتحدة الأمريكية.

زاد ترامب على ما قاله من الشعر بيتا، فقد أكد عزمه زيادة الوجود العسكرى الأمريكى فى الأراضى السورية، وأعلن عن خطط واضحة لإرسال المزيد من العسكريين الأمريكيين لتعزيز وحدة العمليات الخاصة العاملة فى سوريا، التى كان يبلغ عددها وقتها 500 عسكرى فقط.

تخيلت وقتها أن ما يقوله ترامب ليس إلا كلامًا انتخابيًا دعائيًا، فعندما يصل إلى البيت الأبيض سيكون لكل حادث حديث، لكن بعد أن أصبح رئيسًا رسميًا تأكدت الرؤية.

التأكيد هذه المرة جاء على لسان المتحدث الرسمى للبيت الأبيض «سباسير»، فقد قال: أمامنا فرصة وينبغى أن نركز على هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، الولايات المتحدة لديها أولويات راسخة فى سوريا والعراق، وأوضحنا أن مكافحة الإرهاب، وبصفة خاصة هزيمة الدولة الإسلامية «هكذا سماه هو رغم أنها لا دولة ولا إسلامية» تأتى فى مقدمة الأولويات.

كان ترامب صادقًا إذن، لكن الأهم من صدقه بالنسبة لى، أنه كان متوافقًا جدًا مع رؤية السيسى المبكرة، فالمهمة التى يجب أن نوليها جميعًا اهتمامنا هى القضاء على الإرهاب، وكل ما يتبقى بعد ذلك يمكن التعامل معه على الأرض.

هذه بالمناسبة أمريكا، لم تتغير، تقف مع من يمتلك الأرض ويسيطر عليها، وبشار الأسد حتى الآن يتواجد على الأرض وبقوة، وقد تعتقد أن هذا يمكن أن يسهل المهمة على المفاوض المصرى القوى فى البيت الأبيض، هذا صحيح، لكن هناك جولة، لابد أن يخوضها السيسى مع الجانب السعودى، فلابد أن تكون الرؤى واحدة، والآراء متوافقة.. وهو ما سيحدث إن لم يكن غدًا فبعد غد.

يبقى لنا ما الذى يحمله السيسى بخصوص الملف الليبى؟!.

هذا حديث آخر، أعتقد أنه يمكن أن ينتظر إلى الغد.