رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: مصير فلسطين فى أوراق الرئيس


لو ذهب السيسى إلى البيت الأبيض فى السنة الأولى من ولايته، لتغير الوضع كثيرًا.

ساعتها كان سيبحث عن ترميم وضع مصر الذى تهدم بعد ثورتين، ويحاول أن يمسك بطرف فرصة لإثبات أن الشعب هو من قام بالثورة، وأن كل ما فعله الجيش هو مساندة واجبة.

كان سيتحدث كثيرًا عما جرى، فى محاولة منه لإعادة العلاقات المصرية الأمريكية إلى سابق عهدها.


لكنه الآن وهو يدخل البيت الأبيض بعد مضى ما يقرب من عامين ونصف العام من ولايته، يضع على مائدة التفاوض مع دونالد ترامب قضايا المنطقة، ليس بوصفه شاهدًا عليها، ولكن باعتباره صاحب دور أصيل فيها.


وأنت تقرأ سيكون الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حزام قمته مع ترامب، قبلها بقليل أو بعدها بقليل.

الملفات المصرية التى يحملها معه، تكاد تكون محسومة.

فترامب يقف مع مصر بقوة فى حربها ضد الإرهاب، يحمل على كتفيه قناعة تامة بأن مساندة مصر ودعمها اقتصاديًا، ليس هبة من عنده، بل جزءًا من الحرب التى يجب أن يخوضها العالم كله ضد الإرهاب، وقد قامت مصر بدورها كاملًا ولاتزال، فى إيقاف نزيف الدماء الذى وصل إلى عواصم العالم الكبرى، وهو ما حذر منه السيسى فى لقاءات سابقة، دون أن يمنحه أحد أذنه، لكن عندما أصبحت لغة الدم هى السائدة، التفتوا إلى ما قال، وبدأوا فى استعادته، دون أن يدركوا أنهم لو آمنوا بما تفعله مصر من البداية، ما وصلت إليهم نيران الإرهابيين المدنسة.

لن يستغرق السيسى وقتًا طويلًا وهو جالس إلى ترامب فى الحديث عما يخص مصر، فهو يملك أدواته، ويخوض معركته، ويعرف ما الذى سيأتى، لكنه يتعامل فى البيت الأبيض من أرضية المفاوض، الذى وضع على عاتقه عبء الوصول إلى حلول واضحة لقضايا معلقة، وملفات ملتهبة، تحتاج إلى كلمة فصل، ولأن البيت الأبيض ليس بعيدًا عما يجرى، ولن يكون، فمن المهم أن تكون الصورة واضحة أمامه.

الملف الأهم الذى يحمله السيسى معه إلى واشنطن، هو ملف القضية الفلسطينية.

يعرف المفاوض المصرى أنه يسير فى أرض زلقة تمامًا، يدرك أن الجانب الإسرائيلى لا يمتلك نية صادقة ولا خطة واضحة فيما يتعلق بالقضية، كما أنه لن يتنازل أبدًا عن مراوغته فيما يخص ما يريده ويراه، ويعرف كذلك أن هناك صعوبة بالغة فى التفاوض مع الجانب الأمريكى فيما يخص أى شىء يتعلق بإسرائيل، فترامب فى النهاية رئيس أمريكى، والمزاج الأمريكى يميل طول الوقت إلى الجانب الإسرائيلى، ليس بسبب العلاقات الاستراتيجية التى تربط بينهما فقط، ولكن بسبب قوة ونفوذ وتأثير اللوبى اليهودى الذى يملك أوراق لعب كثيرة ومتعددة فى دوائر صنع القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية.

الموقف الذى يحمله السيسى من القضية الفلسطينية مبدئى، يمكننا أن نحدد ملامحه فى ثلاثة بنود أساسية لا تحتاج إلى مزيد من الاجتهاد.

أولها: حل الدولتين هو السبيل الوحيد لحل القضية من جذورها، على أن تقوم دولة فلسطين على حدود 1967 وتكون عاصمتها القدس الشرقية.

ثانيها: وقف عمليات التوسع الاستيطانى.

ثالثها: عدم نقل سفارات الدول من تل أبيب إلى القدس.

هذا ما تراه مصر بوضوح.

ترى أيضًا أن التفاوض حوله مع الجانب الأمريكى سيكون صعبًا جدًا، لكن الرؤية المصرية تسير على أرض صلبة، فإما حل القضية الفلسطينية بهذه الطريقة، وإلا فإن الصراع سيستمر، فلن يهدأ الفلسطينيون وإسرائيل تتمدد على جثث أبنائهم.

لن نتجاوز الواقع ونقول إن مصر تعمل فى الملف الفلسطينى، فقط لأنها حريصة على القضية الفلسطينية، فهذا أمر مفروغ منه تمامًا، لكنها أيضًا تعمل على استعادة دورها فى المنطقة، وهو الدور الذى أصبح مفقودًا تمامًا منذ سنوات عصر مبارك الأخيرة، وهى السنوات التى تحول فيها النظام إلى أسد عجوز يلعب الصغار فى أسنانه كما يشاءون، انكفأ على نفسه تمامًا، وعمل على حماية مكاسبه، وهو ما أدى إلى تآكل دور مصر تمامًا، ودخل لاعبون آخرون، حاولوا أن تكون لهم الكلمة العليا فى القضية الفلسطينية.

من اللحظة الأولى التى دخل فيها عبدالفتاح السيسى إلى قصر الاتحادية، وهو يضع أوراق القضية الفلسطينية ضمن ملفاته المهمة التى لها أولوية.

وليس بعيدًا عنا ما فعله، سواء ما تم الإعلان عنه، أو ما تم سرًا، وهى السرية التى كانت تقتضيها المفاوضات.

لكننى سأتوقف عند محطات بعينها فى ملف فلسطين عند السيسى.

عندما أعلنت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، عن لقاء سرى جمع بين الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو والملك عبدالله الثانى ملك الأردن ووزير الخارجية الأمريكى السابق جون كيرى، قامت قيامة البعض، ربما لأنهم لم يدركوا أن اللاعب المصرى كان يتحرك ومبكرًا جدًا فى ملف القضية الفلسطينية.

كان هذا الإعلان فى منتصف فبراير 2017، عن خبر جرى فى فبراير 2016.

أشارت الصحيفة الإسرائيلية إلى أن هذا اللقاء جرى بترتيب شخصى من الرئيس الأمريكى السابق، باراك أوباما، الذى كان يأمل فى دفع عملية السلام وتحقيق أى تقدم فيها قبل رحيله من البيت الأبيض.

وقتها سمعت من مصادر دبلوماسية مطلعة ومقربة مما جرى أن اللقاء الرباعى تم بدعوة شخصية من الرئيس عبدالفتاح السيسى، ولم يكن بترتيب من أوباما، وكانت هذه إشارة إلى أن القاهرة أصبحت تملك روح المبادرة فى الملف الفلسطينى، فلم يعد الرئيس المصرى ينتظر دعوة من أحد، ولكنه يدعو ويطلب لقاءات واجتماعات، لأن لديه ما يقوله، وكان ما قاله السيسى فى هذا الاجتماع واضحًا ومحددًا وحاسمًا وحازمًا فى وقت واحد، فقد طالب بحقوق الفلسطينيين كاملة من خلال حل الدولتين كحل واحد ووحيد لا تنازل عنه على الإطلاق.

وقتها كان السؤال: وإذا كان السيسى يعمل من أجل القضية الفلسطينية بكل هذا الإخلاص، فلماذا يتحرك فى السر؟

لماذا لا يعلن عن خطواته بوضوح؟

والإجابة التى اعتبرتها منطقية، وأشارت إليها المصادر الدبلوماسية وقتها، هى أن هذا اللقاء كان مجرد حلقة فى ملف التفاوض الكبير الذى قرر السيسى أن يخوضه بنفسه للحفاظ على حقوق الفلسطينيين.

بعد اللقاء الرباعى بما يقرب من 3 شهور، كان هناك تحرك مختلف من السيسى، وكان علنيًا هذه المرة.

كنا فى أسيوط نحضر مع الرئيس افتتاحه بعض المشروعات التنموية، أعلنت مذيعة الحفل عن السلام الجمهورى، وبعد أن ردد الحاضرون مع الموسيقى كلمة النشيد، وقبل أن يغادروا الخيمة، وجدت السيسى يتوجه إلى المنصة مرة أخرى، ويبدأ فى حديث كان مفاجأة للجميع.

ناشد السيسى الأطراف الإسرائيلية لتحقيق السلام حتى تستفيد منه الأجيال المقبلة، قال إن هناك العديد من المبادرات العربية والدولية لإيجاد حل حقيقى للقضية الفلسطينية، وإن مصر تلعب دورًا رياديًا فى تلك المبادرات.

لم يكن يعرف من استمعوا إلى السيسى وهو يطالب القيادة الإسرائيلية بأن تذيع خطابه فى إسرائيل مرة واثنتين ليصل إلى الجميع، أن اجتماعًا جمعه بنتنياهو، عرض فيه تصوره لحل القضية، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلى لم يتفاعل بما يجب، وتحجج يومها بأن هناك صعوبات كثيرة سيواجهها، حتما ستحول بينه وبين الوصول إلى الحل الذى يقترحه السيسى.

كان السيسى واضحًا أكثر مما ينبغى، قال: أنا مبعرفش أحور ولا أتآمر، حل القضية الفلسطينية وإقامة دولتها السبيل الوحيد لتحقيق سلام أكثر دفئا بين مصر وإسرائيل.

وضع السيسى إسرائيل فى خانة اليك، كشف أمام العالم كله أن كل الأيادى ممدودة بالسلام إلى تل أبيب لكنها تأبى.

هذه المواقف المفصلية، تجعلنا نعود مرة أخرى إلى أوراق التفاوض التى يحملها السيسى إلى البيت الأبيض، وأقول تفاوض لأنه لم يذهب ليستجدى حلًا للقضية الفلسطينية، ولكنه يملك حلًا، إما أن يمتثل له الجميع، أو تكون الخسارة عامة وشاملة وعلى الجميع أيضًا.

المفاوض القوى الذى يحل ضيفًا على البيت الأبيض، أسس دوره فى القضية الفلسطينية على أسس السياسة والمناورة، دون التفريط فى المبادئ والثوابت.

لم يكن ترامب نفسه بعيدًا عن الأداء المصرى فى الملف الفلسطينى.

بدت المناورة بوضوح فى القرار المصرى بوقف الاستيطان.

القاهرة فى 23 ديسمبر 2016.

كنا ننتظر نتيجة التصويت على الاقتراح الذى تقدمت به مصر حول الاستيطان الإسرائيلى إلى مجلس الأمن باعتبارها عضوًا فيه عن المجموعة العربية، لكن التصويت لم يأت، جاء قرار آخر بتأجيل الاقتراح، ثم اقتحمتنا معلومات عن اتصال تليفونى جرى بين الرئيس عبدالفتاح السيسى والرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لم تكن تفاصيله بعيدة عن القرار.

بحثت عما جرى، وكانت الإجابات من مصادر سياسية ودبلوماسية كانت قريبة من القرار عندما تقدم، وأقرب إليه عندما سحب.

وزعت مصر مشروع قرار على أعضاء مجلس الأمن تدعو فيه إلى وقف بناء مستوطنات جديدة، تأسيسًا على أنها تنتهك القانون الدولى.

أشعل القرار المصرى النار فى أطراف الجميع، وتحركت إسرائيل على مستويين، الأول إعلامى هاجم خلاله مسئولون إسرائيليون مصر هجومًا عنيفًا، كان أقله أنها تدعم الإرهاب، والثانى سياسى ودبلوماسى، حيث تم التواصل مع مسئولين فى الإدارة الأمريكية، لكن النتيجة التى فاجأت إسرائيل، وكما أفشى مسئولون أمريكيون، أن إدارة الرئيس أوباما كانت تدرس الامتناع عن التصويت، وهو ما كان سيسمح بتمرير مشروع القرار.

تدخل ترامب بعد أن لجأت إليه إسرائيل.

أجرى اتصالًا رسميًا مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، تحدث عن القرار المطروح أمام مجلس الأمن حول الاستيطان الإسرائيلى، وطبقًا للبيان الرئاسى، فإن الرئيسين اتفقا على أهمية إتاحة الفرصة للإدارة الأمريكية الجديدة للتعامل بشكل متكامل مع جميع أبعاد القضية الفلسطينية بهدف تحقيق تسوية شاملة ونهائية لهذه القضية.

كان اتصال ترامب بالسيسى بداية فتح الطريق، لم ينته الاتصال إلا بالحصول على وعد من الرئيس الأمريكى، الذى لم يكن قد دخل البيت الأبيض بعد، بأن تكون هناك مفاوضات حول القضية الفلسطينية تلعب فيها مصر الدور الرئيسى، وهو ما يتحقق الآن على أرض الواقع، فالسيسى يحمل ملف القضية الفلسطينية فى رحلته الأولى إلى واشنطن، بعد أن منحها زخمًا هائلًا، وحتى لو لم تتقدم القضية على الأرض خطوات ملموسة، فعلى الأقل منحها الرئيس الفرصة مرة أخرى لتتصدر عناوين الصحف العالمية، ووضعها أمام البيت الأبيض كقضية ملحة، وكمدخل أساسى لابد أن تعبر منه الإدارة الأمريكية إذا ما أرادت أن تستعيد دورها فى المنطقة.