رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذين يعبدون الكاميرا من دون الله


لا أحب «الإعلانات الترويجية» للبرامج الدينية، حيث كل ما يدور أمام الكاميرا مصنوع باحتراف يطابق العفوية، درجة الإضاءة، مستوى الصوت، زاوية النظر.

يدخل الشيخ الوقور موقع التصوير.. يضبط له الماكيير مكياجه، إن لم يكن مكياجًا كاملًا فعلى الأقل يضع له «بودرة» تطفئ لمعة البشرة، وربما يضع قليلًا من الكحل ليس من باب التأسى بالسنة النبوية، وأيضًا لا علاقة للأمر بالتبرج أو التشبه بالنساء، المسألة تتعلق فقط بجماليات التصوير بكاميرا الفيديو، أو فقه الضرورات التى تبيح المحظورات، هذا الكارت الذى يُشهره رجال الدين فى التوقيت المناسب والزاوية المناسبة لمقتضيات الحال.

تقترب من الشيخ فتاة تعرفه بنفسها، ينكمش فى نفسه، كى يقلص من مساحة اقترابها من وجهه، فلا يعلق فى ذهنه غير آخر التعريف: استايلست، هكون مسئولة عن تنسيق «الفيتمو» لفضيلتك.. بالتحديد يا فندم الكولير، المارون اللى حضرتك لابسه ده مش حلو على التيليه.. فخلينا فى درجات البلو والجراى.. داكور؟

قبل أن يهز الشيخ رأسه، تمد يدها وتخلع عنه «الجبة» بنية اللون ليستبدلها بأخرى رمادية.

- يا سلام ترى اليجون.

بعد أن يتأكد الشيخ من انضباط هيئته وهندامه وبمباركات من الاستايلست، ومن مساعدى المخرج، يستعد كممثل ناشئ لتنفيذ تعليمات المخرج.

تبدأ الوصايا: مولانا ستسير من هذا العمود إلى هذا العمود.

يرسم مساعد المخرج خطًا مستقيمًا بالطباشير، تبدأ الكاميرا فى الدوران، يصرخ المخرج أكشن، أكشن.

يرتبك الشيخ، يتعثر فى خطواته، يغرق فى تساؤلات عما لا يعلم: هل يمشى الهوينى؟، يمشى مسرعًا؟ أين يضع يديه؟ السبحة ستنقذه، السبحة لقد نسيها فى جيبه، يضع يده فى جيبه، ويخرج بها.

يصرخ المخرج : ستووووب.. يا مولانا لازم تندمج فى دورك، مينفعش تحط إيدك فى جيبك وتطلع السبحة فجأة.

يحاول الشيخ أن يدارى ارتباكه بتوضيح: أنا فى الحقيقة كنت فى حيرة من أمرى: ما عدد الخطوات التّى على السير بها؟ أبدأ بأى قدم اليمنى أم اليسرى؟ يقاطعه المخرج صائحًا: ابتدى بأى رجل، وأى عدد، المهم تبتدى، تفضل يا مولانا.

يبدو المخرج متساهلًا فى التعليمات بطريقة تربك الشيخ، لكنه يستجمع موروثاته ويبدأ بالقدم اليمنى، تتسارع حبات السبحة فى الدوران بين أنامله، يتتبع الخط المرسوم على الأرض.. يمتد الخط كأنه صراط يرتفع به عن الأرض، يستقيم فوق هاوية، عليه ألا يلتفت، ألا ينظر أسفل قدميه، يبتعد العمود، ينزاح للخلف يبتعد.. يبتعد، تكاد ساقاه تلتف إحداهما على الأخرى، تتثاقل خطواته، لكنه يصل فى النهاية لآخر الخط، يهتف المخرج: ستوب.

يظل الشيخ جامدًا فى مكانه، يشير له المخرج: ماشى يا مولانا، اتفضل حتى نجهز اللقطة اللى بعدها، يجلس الشيخ على أقرب كرسى، يأتى مساعد الماكيير ليجفف وجهه

يسأله فى تردد: إيه رأيك؟

يجيب الشاب وهو منهمك فى عمله: كويس يا مولانا، بس..

يستحثه الشيخ : بس إيه؟

- كنت فاكرك هتكون أحسن من كده، ده فضيلتك غول فى الجامع، عموما ما تقلقش بُكرة تتعود.

يعتريه شعور بالفتور، ويملؤه فراغ، يبحث عن صورته.. يلمحها منطفئة، غائمة، بعيدة، يستمع لصوته يصول ويجول وهو أعلى المنبر فيصب جام الغضب واللعنات على الخاطئين، ويختار ما يشاء من آيات قرآنية لتفسيرها، يحيى أحاديث، ويميت أخرى، لا شىء يحدث صدفة، فلكل مكان رب يديره.

يتذكر مدير القناة عندما طالبه بزيادة قيمة التعاقد لتكون مماثلة لقيمة زميله الداعية الشاب، فضحك باستخفاف: يا مولانا ده عقد لموسم واحد 13 حلقة، إنت بتجرب وإحنا كمان بنجرب.

يستجمع قواه، ينظر تجاه الكاميرا السوداء، يقترب منها، يلمس زجاجها.

يبتسم له المصور: العدسة دى حساسة جدًا.

يرد الشيخ: صحيح.

يصيح المخرج: أكشن.. يحدد فروضه: ابتسامة، ورع، ابتهال، خشوع، ندم..

يفاجئ الشيخ الجمهور، يشير بعصاه، تلتقف كل الحبال، يقبض على الصولجان، يتماهى مع العرش فى أداء هادئ، سلس، انسيابى.. تمامًا كما تحب الكاميرا من النجوم المحترفين.