رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف نجت مصر من شبح الإفلاس؟

السيس مع رئيس الوزراء
السيس مع رئيس الوزراء وطارق عامر

شهدت الشهور الماضية عدة قرارات اقتصادية قاسية على المواطنين، كان أصعبها تحرير سعر صرف الجنيه الذى أدى إلى ارتفاع رهيب فى أسعار جميع السلع والخدمات تحمل كلفته جميع المصريين وشعر به محدودو الدخل بصورة أكبر من غيرهم.

خلال السنوات الست الماضية واجه الاقتصاد المصرى حزمة من التحديات تمثلت فى الانهيار شبه الكامل لقطاع السياحة فى ظل الظرف الإقليمى والحرب المعلنة على الإرهاب، علاوة على تراجع معدلات الاستثمار الأجنبى وانخفاض معدلات تحويلات المصريين فى الخارج، حتى بات الوضع الاقتصادى على المحك، ما استلزم اتخاذ وقفة حاسمة قبل أن نصل لنقطة اللاعودة فى طريق الانهيار الكامل.


القرارات الصعبة كان لابد منها لإنقاذ مصر من براثن الإفلاس، وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى بوضوح، خلال المؤتمر الوطنى الأول للشباب فى 25 أكتوبر الماضى، عندما توجه للمصريين، مطالبًا إياهم بعدم التخلى عن بلادهم، قائلًا: «لا تتخلوا عن بلدكم..أنا كان ممكن أخلص مهمتى وأقول شكرًا، وأسيبكم للمجهول، لكن معملتش كده وقررت اختيار الطريق الصعب».


«الدستور» تستعرض هنا ما كان عليه الاقتصاد المصرى من أوضاع وما جرى اتخاذه من إجراءات لمنع الانهيار، وحجم الطموحات التى يمكن تحقيقها خلال الفترة المقبلة.


سيناريو الأزمة اليونانية يهدد الاقتصاد المصرى

فى العام 2016 بلغ إجمالى حجم الدين الداخلى 98% من الناتج المحلى، ولم تعد احتياطيات البنك المركزى من العملات الأجنبية تكفى لتغطية 3 أشهر من الواردات، وسط معدل نمو منخفض لا يتجاوز 3%، وبطالة مرتفعة، وفقر متوحش، وضعف وتشوه بهيكل الاقتصاد، وسوء بمناخ الأعمال، ورأسمال بشرى لا ينتج، وبنية تحتية ضعيفة، وفرص محدودة للحصول على التمويل، وضعف القدرة على المنافسة الخارجية.

كانت التقارير تشير إلى أن مصر كادت تدخل مرحلة الإفلاس الاقتصادى والتوقف عن دفع ديونها، فعجز الموازنة العامة للدولة تفاقم ليصل إلى 12.2% من الناتج المحلى الإجمالى فى السنة المالية 2015/2016، مع ارتفاع الدين المحلى وارتفاع عجز الميزان الجارى ليصل إلى 18.6 مليار دولار، وارتفاع الإنفاق المحلى بدون إنتاج محلى، مما أدى إلى زيادة الواردات من السلع.


كل ذلك وسط انخفاض عائدات السياحة إلى أدنى مستوياتها لتسجل 3.8 مليار دولار خلال السنة المالية 2015/ 2016 بانخفاض يزيد على 50% عن عائداتها فى العام السابق، وتراجع الاستثمار الأجنبى المباشر، الذى سجل 6.8 مليار دولار فى السنة المالية 2015/2016 بعدما كان عام 2007/2008 13.2 مليار دولار، وانخفاض إجمالى تحويلات المصريين بالخارج بنحو 2.4 مليار دولار بنسبة انخفاض بلغت 12% عن نظيرتها فى العام السابق.


وما زاد من صعوبة الموقف، فقدان الحكومة الدعم المالى الخليجى فجأة وسط إمكانية التعرض لعدم القدرة على الوفاء بالتزامات محددة، مثل أقساط القروض، ما يشبه أزمة الدين السيادى لليونان التى بدأت عام 2009 وكان الاحتياطى يبلغ 15 مليار دولار، وهو الحد الأدنى الحرج لأى احتياطى والحد الأدنى لتغطية تكلفة الغذاء والوقود على مدى ثلاثة أشهر، ووسط هذا السواد جرى اتخاذ القرار الصعب بتحرير سعر الصرف، ليقفز سعر الدولار إلى 20 جنيهًا ثم يتراجع بعد القضاء على السوق الموازية.


إجراءات لخفض الدين وبيع حصص الدولة بالبنوك

جاء قرار تحرير سعر الصرف الذى جرى اتخاذه فى 3 نوفمبر 2016 كقمة لجبل ممتد من القرارات العلاجية التى تم الإعداد لها على مدار فترة طويلة، فقد جرى الإعداد لتحرير سعر الصرف بشكل كامل خلال أكتوبر 2016، فصدرت تكليفات رئاسية لمحافظ البنك المركزى باتخاذ إجراءات لخفض الدين العام وزيادة الاحتياطى النقدى، مع توفير الموارد المالية اللازمة لإتاحة السلع الأساسية للمواطنين والحفاظ على استقرار أسعار السلع.


وتضمنت الإجراءات التى جرى الاتفاق عليها فى أكتوبر: بيع حصص الدولة بعدة بنوك، وتهيئة مناخ الاستثمار والتشجيع على الصادرات بإصدار قانون موحد للاستثمار، مع تدبير البنك المركزى العملة الصعبة لاستيراد السلع الأساسية، عبر عطائه الأسبوعى، مع السيطرة على التضخم والتحكم بأسعار الفائدة.


فى مارس 2016 عندما تم خفض الجنيه بقيمة 112 قرشًا ورفع أسعار الفائدة 1.5% حدثت زيادة فى تكلفة الدين بقيمة 14 مليار جنيه، فصدرت تعليمات لمحافظ البنك المركزى بالإسراع فى توفير تمويلات دولية، بالتنسيق مع سحر نصر وزيرة التعاون الدولى، فتم رفعرصيد الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبى لمستويات استثنائية وفقًا للمعايير الدولية، على الرغم من جميع التحديات ليسجل 23.1 مليار دولار بنهاية شهر نوفمبر 2016، شهر القرار، وهو أعلى معدل وصل إليه منذ نوفمبر 2011، عبر قيام بنكى المركزى المصرىوالصینى بتاريخ 6 دیسمبر 2016 بإبرام اتفاقیة ثنائیة لمبادلة العملات بمبلغ ١٨ ملیار یوان لإظهار دعم الصین لبرنامج الإصلاح الاقتصادى فى مصر.


وأبرم المركزى أيضًا اتفاق تمويل مع مجموعة من البنوك الدولية بقيمة 2 مليار دولار لمدة عام واحد، عبر عملية بيع وإعادة شراء عن طريق بيع سندات دولية دولارية، طرحتها وزارة المالية مؤخرًا فى بورصة أيرلندا بآجال استحقاق ديسمبر 2017، ونوفمبر 2024، ونوفمبر 2028، وفقًا للشروط الدولية المتعارف عليها.


 القرارات الصعبة تثمر عن شهادات جودة دولية

رغم صعوبة قرار تعويم الجنيه فإن نتائجه كانت إيجابية، فالأرقام الرسمية تؤكد أن حجم عمليات التجارة الخارجية المنفذة بلغ خلال الفترة من 29 أكتوبر 2015 وحتى 20 ديسمبر 2016 نحو 63.117 مليار دولار وسجلت فى الفترة بعد تحرير سعر الصرف نحو 9.037 مليار دولار. وعلى الرغم من الضغوط المستمرة على العملة الأجنبية، تم توفير 9.920 مليار دولار لتلبية احتياجات استيراد السلع الأساسية من خلال عطاءات البنك المركزى الدورية والاستثنائية، الأمر الذى جنب مصر الدخول فى أزمة حقيقية لتوفير السلع الأساسية مع زيادة رصيد الاحتياطى مقارنة بالمستوى المسجل فى نوفمبر 2015.


وتم توفير تمويلات مباشرة من العملات الأجنبية بقيمة 21.512 مليار دولار منذ نوفمبر 2015 لمؤسسات الدولة منها 9.263 مليار دولار لقطاع البترول و77 4.0 مليار دولار لاستيراد السلع الغذائية الأساسية، و1.399 مليار دولار لسداد مديونية خارجية تخص قسط تجمع دول «نادى باريس» و3.805 مليار دولار تمثل التزامات خاصة بالمديونية الخارجية، بالإضافة إلى أقساط ودائع الدول العربية وكوبونات السندات الصادرة عن وزارة المالية و1.280 مليار دولار لوزارات الحكومة المختلفة.


ومع النتائج الجيدة جرى فتح قنوات اتصال مع مؤسسات التمويل الدولية، منها بنك التنمية الإفريقى، والبنك الدولى، والبنك الإفريقى للتصدير والاستيراد، وصندوق النقد العربى، دول أوروبا «ألمانيا وفرنسا» والصين وغيرها من المؤسسات والدول للحصول على قروض بشروط ميسرة لدعم رصيد الاحتياطى الدولى من النقد الأجنبى، وتم الحصول على تسهيلات موردين بمبلغ يزيد على 6.5 مليار دولار، مما خفف من الضغوط على استخدامات العملة الأجنبية.


 وهو ما دفع وكالة التصنيف الائتمانى «فيتش» لأن تتوقع تحقيق النمو الاقتصادى فى مصر متوسطا يصل إلى 4.5% سنويًا فى العام المالى 2018/2019.


إنشاء «مجلس قومى للمدفوعات» لخفض استخدام النقد خارج البنوك

لضبط أداء تداول العملة، وقبل إعلان قرار تحرير سعر الصرف، كان الرئيس يدرس مقترحا بإنشاء مجلس قومى للمدفوعات، وبعد الاجتماع الأول للمجلس الأعلى للاستثمار تقرر إنشاء المجلس القومى للمدفوعات لخفض استخدام النقد خارج البنوك.


 مصادر حكومية عليا أكدت لـ«الدستور» أن من أهم اختصاصات المجلس خفض استخدام النقد خارج البنوك، ودعم وتحفيز استخدام الوسائل والقنوات الإلكترونية فى الدفع بديلاً عن النقد، والعمل على تحقيق الشمول المالى بهدف دمج أكبر عدد من المواطنين فى النظام المصرفى، وضم القطاع غير الرسمى إلى القطاع الرسمى، وتخفيض تكلفة انتقال الأموال، وحماية حقوق مستخدمى نظم وخدمات الدفع، وتحقيق تنافسية سوق خدمات الدفع، وتنظيم عمل الكيانات القائمة ورقابتها.


إفاقة السياحة من غيبوبة الطائرة الروسية

باعتبار السياحة مصدرًا أساسيًا للعملة الصعبة، طلب الرئيس من محافظ المركزى إطلاق مبادرة عاجلة لتجديد الفنادق والقرى السياحية والمراكب النيلية العائمة على مستوى الجمهورية بقيمة 5 مليارات جنيه بفائدة 10%، بعد حالة الركود السياحى التى يشهدها القطاع فى أعقاب الغيبوبة التى دخلها القطاع نتيجة الحوادث الإرهابية وأهمها واقعة إسقاط الطائرة الروسية عقب إقلاعها من مطار شرم الشيخ. 


شملت الخطة الحكومية أيضًا مد العمل بمبادرة دعم الشركات العاملة فى قطاع السياحة حتى فبراير 2018، يتم خلالها تأجيل المستحقات طرف البنوك 3 سنوات، ومنح العاملين فى قطاع السياحة مهلة إضافية حتى نهاية يونيو ٢٠١٧، يتم خلالها ترحيل أقساط القروض الخاصة بهم لمدة 6 أشهر.


 الوثائق التى حصلت عليها «الدستور» تكشف أن احتياطى النقد الأجنبى وصل للمرة الأولى منذ سنوات إلى 26.3 مليار دولار، وبات يغطى احتياجات مصر من الواردات لمدة 6 أشهر مقبلة، فبينما كان فى 2010 نحو 18٫119 مليار دولار، انخفض فى ديسمبر 2012 إلى 15 مليارًا، ليرتفع فى ديسمبر 2013 إلى 17٫032 مليار، ثم انخفض إلى 15٫333 مليار فى 2014، ثم ارتفع إلى 16٫445 مليار فى 2015، ثم 24٫265 مليار فى ديسمبر2016 بعد تحرير سعر الصرف، ومرتفعًا فى أقل من شهر إلى 26.3 مليار دولار.


إجراءات حكومية لتخفيف آثار الصدمة

اتخذ البنك المركزى مجموعة من الإجراءات منذ تحرير سعر الصرف وخلال المرحلة القادمة، ومنها إعطاء مرونة للبنوك العاملة فى مصر لتسعير شراء وبيع النقد الأجنبى، بهدف استعادة تداوله داخل القنوات الشرعية، وإنهاء السوق الموازية تماما، ورفع سعرى عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة بواقع ٣٠٠ نقطة أساس، والسماح للبنوك بفتح فروعها حتى الساعة التاسعة مساءً، وأيام العطلة الأسبوعية، بغرض تنفيذ عمليات شراء وبيع العملة وصرف حوالات المصريين العاملين فى الخارج.


وتتضمن خطة المركزى قصيرة المدى، تعظيم موارد الدولة من النقد الأجنبى من خلال جذب استثمارات الأجانب المباشرة فى محافظ الأوراق المالية، والبدء فى برنامج الطروحات الخاص بالبنوك وشركات القطاع العام فى البورصة، وطرح سندات دولية، وزيادة موارد القطاع المصرفى من العملة الأجنبية، وإعادة تحويلات المصريين بالخارج إلى القطاع المصرفى، وحل معوقات الصادرات واستهداف مضاعفة الصادرات السلعية فى عامين وتشجيع السياحة.


كما تضم السماح لجمعيات وشركات التمويل متناهى الصغر بالعمل كمقدمى خدمة للبنوك فى صرف القروض وتحصيل أقساطها واستقبال تحويلات المصريين، وكذلك خدمة الدفع من خلال الهاتف المحمول، التى تعد من أكثر الخدمات المالية قدرة على تحقيق الشمول المالى فى ضوء الانتشار الواسع لاستخدام الهواتف المحمولة، حيث يمكن لجميع أفراد المجتمع، وخاصةً محدودى الدخل والشباب وسكان المناطق النائية، الحصول على الخدمات المصرفية بسرعة وبأقل تكلفة، على مدار الساعة.