رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احتفاء خاص بـ«الفيلسوف المجذوب ».. كل سنة وانت طيب يا عمنا

حكايات خيري شلبي من مصر القديمة إلى تل أبيب

خيري شلبي
خيري شلبي

أين أنام الليلة يا رب العالمين؟

هى ليلة واحدة تتكرر ببردها المستمر وحزنها وألمها وقسوتها، عشرون عامًا وفى كل ليلة يسأل الرجل نفسه: أين أنام الليلة يارب العالمين؟ أين أنام هانئاً دونما فزع وخوف وترقب وقلق وإهانة.. أين يارب العالمين؟!

هى مأساة كل الفقراء القادمين إلى المدن من الأقاليم، لحن حزين وشجى ومتعدد الحكايات والروايات، الكل يمتلك قصصاً طريفة ومأساوية عن «البيات والنوم»، لكن خيرى شلبى صنع منه «موال» فى رواية بديعة الحسن والجمال، فالبطل الذى يعيش فى هذا الشقاء والذى تتعاطف معه وهو يختبئ فى دورة المياه ويغافل الحارس لينام قليلاً والذى تعجبك طيبة قلبه وهو يحنو على قطة فى رحلة البحث ليس مصنوعًا بل هو يشبهك أحياناً فى صراعك مع الحياة ورغبتك فى الدفاع عن وجودك على سطح هذا الكوكب، شاب من لحم ودم وجد نفسه وسط الشوارع والمقاهى وصقيع البرد والرياح والمطر والخوف وفى كل ليلة يبحث عن الأمان والسكينة ويعيش مفارقات مضحكة وغارقة فى السوداوية.

قرأت هذه الرواية فى أسوأ ليالٍ يمكن أن يعيشها شاب يحلم بالعمل فى الصحافة وهو لا يجد مأوى فى القاهرة الواسعة! يتنقل بين شقق الأصدقاء والمعارف وأصدقاء وزملاء المعارف ويتعرض للإهانة المقصودة وغير المقصودة ويكتشف الخطط المرسومة للتخلص منه ويئن من الأسى ويحافظ على ابتسامته ويعمل أراجوز كى يقنعهم بأنه ليس ضيفًا ثقيلاً إلى هذه الدرجة!، ووقعت فى غرام خيرى شلبى واعتبرته من يومها كاتبى المفضل مع يوسف إدريس الذى تربع على عرش قلبى مبكرًا وقبل سنوات حُرمت فيها من متعة قراءة خيرى شلبى.


2 عن بيع زهرة الغسيل والتنظيم الشيوعى




اقتربتُ منه كصحفى صغير يسعى لحوار مع كاتب عظيم، واستقبلنى فى مجلة الإذاعة والتليفزيون، ومن يومها أصبحتُ فخورًا بمعرفته اسمى وتعلق قلبى به وبرقم هاتفه المنزلى، ودعانى للزيارة وعرفته أكثر، كل شىء فى حياته كان مذهلاً ومدهشًا،

عاش حياة بائسة وفقيرة ولم يخجل من الاعتراف بتعاستها، ففى طفولته كان مهددًا بالطرد من المدرسة فى أى لحظة لعجزه عن دفع المصروفات، أو شراء قميص جديد، لذلك قرر العمل حيث كان يتحول فى أشهر الصيف إلى رجل كبير يشارك فى تطهير الترع والمصارف وشتل الأرز، ونام فى الإسطبلات وعلى الأرصفة وأكل الخبز الناشف حتى أنهى دراسته الابتدائية. كل سطر فى مشواره الأدبى كان كذلك، فمن قرية «شباس عمير» بكفر الشيخ جاء إلى الإسكندرية صبيًا فقيرًا تائهًا يبيع زهرة الغسيل والمشابك على المقاهى وفى الشوارع ويطرق أبواب الشقق أحياناً حتى لا ينتهى اليوم دونما قروش قليلة تضمن له سندوتش وكوباية شاى يشربها على مقهى «المسيرى» الشهير بملتقى الأدباء والفنانين ويروى بعدها السير الشعبية التى يحفظ منها مئات الأبيات بصوت عالٍ، وحدث أن تناقل الأدباء حكايته حتى وصلت إلى «يحيى حقى» رحمه الله فقام باستدعائه على الفور كى يعمل موظفًا فى وزارة الإرشاد قبل أن يصبح اسمها وزارة الثقافة. ودارت الأيام وأصبح الفتى ناقداً وكاتباً إذاعيًا معروفًا، وبدأ نهر الرواية يتدفق فكتب خيرى شلبى كثيراً، لكن المناخ الثقافى والأدبى فى الستينيات لم يكن سعيدًا بوجوده!، فالتنظيمات الشيوعية التى أطلقها عبدالناصر من السجون إلى رئاسة تحرير الصحف والمجلات كانت قاصرة النظر مع خيرى شلبى، وصنعتْ كتاباً وروائيين وباحثين ومفكرين ومترجمين من الفراغ وحسب الفترات التى قضاها كل منهم فى «التنظيم» وليس لموهبتهم الإبداعية أو الفلسفية مثلاً، فقرر أن يبتعد عن الحياة الثقافية تماماً، واختار الكتابة بين الموتى!


الكتابة فى المقابر والسيارة الفولكس

حكى لى عم خيرى أنه فى إحدى الليالى تعطلت سيارته «الفولكس» القديمة بجوار مقابر البساتين بحى مصر القديمة، وجلس ينتظر إصلاحها وطال الانتظار، فأخرج الأوراق والقلم وراح يكتب، وأعجبه المكان وطلب من الأسطى الذى يقوم بإصلاح السيارة شايًا، وبكرم مصرى أصيل جاء الشاى وتمت إضاءة المكان حتى يليق بهذا الضيف الذى اتضح أنه كاتب كبير، ولم يستطع خيرى شلبى الاستغناء عن الكتابة فى هذا المكان فقام باستئجار مكان قريب من المقابر وجعله مكانًا خاصًا بالكتابة، فكان يخرج فى الصباح ولا يعود إلا فى المساء وتدفقت الروايات والقصص والدراسات فى الأدب الشعبى وفى أشعار فؤاد حداد وصلاح جاهين، وشهدت مقابر البساتين والإمام الشافعى ولادة عشرات الأعمال الروائية لخيرى شلبى، وفى السبعينيات اهتم خيرى شلبى بالمسرح واكتشف من خلال البحث الدؤوب أكثر من مائتى مسرحية مطبوعة فى القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين من بينها نص مسرحى من تأليف الزعيم الوطنى مصطفى كامل بعنوان «فتح الأندلس»، وقام بتحقيقه ونشره فى كتاب مستقل بنفس العنوان صدر عن هيئة الكتاب ومسرحية من تأليف العلاَّمة الشيخ أمين الخولى بعنوان «الراهب».

كما اهتم بالإذاعة ويعتبر من رواد النقد الإذاعى، ففى فترة من حياته أثناء عمله كاتبًا بمجلة الإذاعة والتليفزيون تخصص فى النقد الإذاعى بوجهيه المسموع والمرئى، وكان إسهامه مهمًا لأنه التزم الأسلوب العلمى فى التحليل والنقد بعيدًا عن القفشات الصحفية والدردشة، فكان يكتب عن البرنامج الإذاعى كما يكتب عن الكتاب والفيلم السينمائى والديوان الشعرى.

وفى الصحافة المصرية ابتدع لونًا من الكتابة الأدبية كان موجودًا من قبل فى الصحافة العالمية ولكنه أحياه وقدم فيه إسهامًا كبيرًا اشتهر به بين القراء، وهو فن البورتريه، حيث يرسم القلم صورة دقيقة لوجه من الوجوه وقدم مائتين وخمسين شخصية من نجوم مصر فى جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والعلمية والرياضية، على امتداد ثلاثة أجيال.

إحنا اللى دهنا الهوا دوكو

طاف خيرى شلبى قرى ونجوع مصر وجلس على مقاه وأرصفة، وجعل حياته كلها تتحول إلى رواية طويلة، فهو الطفل الفقير الذى نام على الأرصفة.. وهو أيضاً الكاتب الذى ترشح لجائزة «نوبل» قبيل وفاته، هو الشاب الذى نام فى الإسطبلات.. وهو الكاتب الحاصل على أرفع الجوائز بداية من جائزة الدولة التقديرية وحتى وسام العلوم والفنون.. هو حدوتة مصرية معجون بالفلكلور الشعبى والإبداع.

انحاز «الوتد» إلى المهمشين والفقراء واستطعم جمال المصريين، وأدرك أن قوتهم فى «صبرهم»، تقول «الشيخة سعادة» ساحرة الجبل وبطلة الجزء الثالث من رواية «وثالثنا ورق» بعد أن أتت بحزمة من أوراق البردى الأثرية تحمل نبوءات المستقبل «لا يسخرن أحدكم من عيال مصر الذين يقولون: نحن الذين دهنا الهوا دوكو ونحن الذين عبأنا الشمس فى زجاجات، فهذا القول فيه من الصحة نصيب كبير!. ذلك هو صبر المصريين على البلاء. الصبر الذى يظنه الأغبياء تبلدًا واستسلامًا للعبودية! الصبر الذى بنى الأهرامات وامتطى النيل وشيّد للعبودية بيوتًا ذات عُمد راسخة!. الصبر الذى نقَش على الحجر الصوّان قصة الخلق والحياة قبل الموت وبعده. رواية خيرى شلبى «الوتد» التى تحولت إلى مسلسل تليفزيونى بطولة الفنانة هدى سلطان «فاطمة تعلبة»، تعتبر أهم عمل أدبى انتصر للمرأة المصرية واعترف بها كقائد يستحق الاحترام ويمتلك الحكمة والقدرة على إدارة الأمور حتى فى قلب مجتمعات لا تعترف سوى بالرجل، وكتب خيرى شلبى مقدمة ديوان الشاعر «أحمد شفيق» صاحب أغنية «انت عمرى»، وقال إن هذه الأغنية التى شدت بها أم كلثوم من أورع قصائد الحب الصوفى الخالص وإن كلمات الأغنية «صالحت بيك أيامى.. سامحت بيك الزمن.. نسيتنى بيك آلامى ونسيت معاك الشجن» هى أجمل تعبير عن الحب.


صالح هيصة والشاعر الإسرائيلي

«أكبر مصلحة ليك يا بيه إن اللى حواليك يتعاملون معاك على إن مفهوميتك على قدك حيبقوا حلوين قوى معاك وآخر فل، بالهم يطمن من ناحيتك وينسوك ويسيبوك فى حالك وده أول مكسب فتعرف دواخلهم وأوضهم الضلمة». أنت هنا فى غُرزة «حكيم» والذى يتحدث بهذه الحكمة هو «صالح هيصة» بطل الرواية العبقرية التى حملت اسمه، يتحدث صالح وهو يرص الأحجار ويشرف على كيف الزبائن، وفجأة يبلبع السبرتو ويصنع «هيصته الخاصة» ربنا خلق الدنيا هيصة! وخلق فيها بنى آدم هيصة! كل واحد فيه هيصة! بيعمل هيصة! عشان يلحق الهيصة، ويا يلحق يا ما يلحقش! وكلهم كحيانين! بس كل واحد كحيان بطريقة! وأنا ملك الكحيانين! عشان كحيان بكل الطرق». أنت أمام ملك صعلوك وفيلسوف مجذوب، عاش عصر النكسة والعبور وسوف يشهد «كامب ديفيد»، ووسط الدخان الأزرق الذى يغطى المكان سيرى كل المثقفين ويعريهم بداية من «قمر المحروقى الباحث فى الجامعة الأمريكية والمكلف بإعداد قاموس عن العامية المصرية، مروراً بالفنان التشكيلى مصطفى لمعى وليس انتهاءً بشخصية الممثل زكى حامد الذى كان مغمورًا وأصبح نجمًا، وبين كل هؤلاء يظهر شاعر العامية الغاضب دائماً، ثم يختفى فترة، ويصدم الجميع بالظهور فى إسرائيل يشارك مراسم استقبال السادات!». انشغلتُ بحكاية هذه الشخصية، وهل هناك شاعر مصرى بالفعل عاش بين المثقفين وسافر تل أبيب؟، وعرفت أنه «نبيه سرحان» الذى ظهر فى السبعينيات وكان شاعرًا موهوبًا لدرجة أن «يوسف إدريس» كتب عنه مقالاً بالأهرام «أديب من بلدى» وكان «نبيه» من قرية «البيروم» بمحافظة الشرقية، القرية نفسها التى ينتمى إليها «إدريس»، كما ذكره الكاتب الكبير «محمود السعدنى» فى إطار حديثه عن مقهى عبدالله الذى كان مقصد الأدباء وقال إن «سرحان» كان يتواجد بينهم وأنه كان يكتب أشعارًا وأزجالًا جميلة، وعندما وصل السادات إلى مطار بن جوريون فى زيارته الشهيرة ظهر «نبيه سرحان» بصفته مذيعًا فى راديو إسرائيل، ورحب به السادات وسلم عليه وسمع الحضور الرئيس المصرى وهو يقول له «افتكرناك فى ليبيا» ونشرت الصحف الإسرائيلية تقارير عن «المصرى» الذى أصبح يعيش بينهم، واستقر به المقام فى تل أبيب مع زوجته المصرية التى أخذها معه وأنجب فتاة انضمت إلى الجيش الإسرائيلى وأصبح اسمه «يوسف سمير». وجمعت كل المعلومات المتاحة عنه وكتبت قصته كاملة فى «الأهرام الرياضى» وأرجعت الفضل فى اكتشاف تلك الشخصية إلى رواية «صالح هيصة» وصاحبها عمّنا خيرى شلبى الذى لن نتذكره اليوم بمناسبة ذكرى ميلاده، فنحن لا ننساه حتى نتذكره، ولكن كل ما أردنا قوله: كل سنة وأنت طيب وحاضر معانا يا عم خيرى.