رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القبطى العاجز.. والمسلمُ الضرير


فى عام 1889م وفى أحد شوارع دمشق أُلتقطت صورة فوتوغرافية لضرير مسلم اسمه محمد يحمل على ظهره ذلك القزم المسيحى المشلول «سمير». وفى حين كان سمير يعتمد على صديقه محمد بشكل أساسى فى التنقل عبر شوارع المدينة، كان محمد يعتمد على سمير فى توجيهه إلى المكان الذى يقصدانه، ويحذره من مخاطر الطرق وخبايا الحفر.. فكان الاثنان  كأنهما روحان حَلا بَدَنَا، يكمل كل منهما الآخر.. ففى حين  يرى أحدهما ولا يستطيع المشى، فإن الآخر يمشى ولا يستطيع أن يرى.. وكانا يسكنان غرفة واحدة . حتى تقدم العمر بكليهما دون عائل من دمه أو ونيس.. فصار كل منهما معيلا للآخر.. حيث كان سمير يعمل حكواتيا بأحد مقاهى «دمشق». بينما كان محمد يبيع البليلة أمام ذاتِ المقهى، مُرسلاً أذنيه لسماع حَكايا صَديقهِ القِبطى العاجز..!...توفى القبطى القزم «سمير» وعاشَ «محمد» أسبوعاً يبكى صديقه المفقود، حتى وجدوه بغرفته ميتاً؛ حزناً على رحيلِ نصفه الآخر.. !

عادة ما تثير شواذ القصص عواطف النبلاء من الناس، لكن هذه القصة بالذات تحكى تكاملاً غير عادى، لم تشهده أجيالنا الحاضرة، سوى فى قنوات «الكارتون» على سبيل السخرية..! فإذا كان هذا النموذج الإنسانى يصعب تكراره الآن بين مسلم ومسلم أو بين مسيحى ومسيحى، فكيف لنا أن نتخيله بين مسيحى ومسلم..؟!

لم تكن هذه القصة  نسجاً من خيال روائى مبدع، أراد أن يُكَرِس ثقافة «التكامل» والاندماج بين بنى البشر. وإنما هى إبداعة نُسِجَّت من واقعنا الإنسانى المأزوم، الذى لا يمكن تجاوزه سوى بالتكامل والتعايش والاندماج معاً.. تكاملٌ يسمو فوق كل العقائد الإنسانية والحدود الوطنية. وينظر إلى الإنسان ككيان مستقل، متحرر من أى تعصب لدين أو مذهب أو وطن...!

لقد عِشنا سنوات طوال فى صعيد مصر،تجاورنا فيها مع الأقباط فى البيت والحقل.. ورغم تفشى الجهل آنذاك؛ فقد كانت تحكمنا نوازعنا الإنسانية البحتة، التى جعلتنا نؤمن بحتمية العيش المشترك والاحترام المتبادل، دون النظر إلى اللون أو العقيدة، وأتحدى أن يستطيع عاقل أن يميز امرأة مسلمة عن مسيحية فى أى قرية من قرى الصعيد. فعادة ما كانا يتبادلان الثياب وغطاء الرأس..!

وعندما غزت الثقافة قُرَانَا النائية، وارتفعت معدلات التعليم فى القرى، وانخفضت معدلات الأمية؛ فقد أبىَ طلابُ العِلم أن يُكَنُوا الأقباط بِكُنيات «العّم» «والخال» وكذلك فعل الأقباط.. وعزفت بعض الفِرق المثقفة من الطرفين عن مشاركة الأخرى فى بيت أو زرع أوتجارة.. الأمر الذى يجعلنى أربط كباحث بين مناهج التعليم  وارتفاع حدة التعصب الدينى.. ناهيك عن دور الإعلام السلبى والغياب شبه الكامل لدور المؤسسة الثقافية فى توجيه الوعى الجمعى المصرى نحو التكامل والتعاون والاندماج الوطنى..!

وهنا لا يمكننا أن نتجاهل بحال من الأحوال السيولة فى الاصدارات الثقافية التى حملت فى طياتها دعوات لعنصرية غير موجودة؛ لعبت - مع مرور الوقت - دوراً خطيراً فى شرذمة النسيج المصرى إلى أقباط أو نصارى ومسلمين.. فى ظل الغياب الكامل لدور الدولة فى الرقابة على المطبوعات، فضلاً عن انشغال الأزهر بالعمل السياسى والتربح، بالإضافة إلى عجز الدولة وتراجعها فى مجال صناعة الإنسان بشكل لا يختلف كثيراً عن تراجعها فى مجال زراعة البطاطا..!

لقد كان للأستاذ خالد محمد خالد السبق فى الدعوة لفكرة التكامل بين الأديان من خلال كتابه الشهير «معاً على الطريق: محمد والمسيح» الذى أكد فيه أن سقراط وأرسطو وأفلاطون أسسوا لمبادئ إنسانية مهمة، لا تختلف تماماً عن تلك التى دعى إليها محمدٌ والمسيح.. وأن المبادئ التى تقوم عليها المجتمعات وتستقر واحدة، تحكمها دائماً المصلحة والتعايش المشترك، ومن ثم فإذا ما ظهرت جماعة تدعو إلى الإقصاء والاستبعاد باسم الدين، فقبل أن تخرج على المجتمع الذى تعيش فيه، فقد خرجت على الأديان التى ترفع شعاراتها..!

ولهذا فكما غزا المسيح العالم بتعاليم المحبة، غزا الإسلام العالم بتعاليم التسامح.. وغزا الإسكندر الأكبر العالم بتعاليم أفلاطون وأرسطو وسقراط..!

لم يكن محمد والمسيح متخاصمين بل كانا أخوين متحابين فى الله، وأن المسيحية مهدت لظهور الإسلام.. ودعا الإسلام بشكل صريح إلى حماية حقوق الأقباط.. والتعايش السلمى ليس فقط مع أهل الكتاب ولكن مع جميع الطوائف الإنسانية على اختلاف أعراقها وعقائدها ومذاهبها الفكرية . ومن ثم فليس غريبا أن يخرج علينا ذلك النموذج السورى الإنسانى المستنير دون شهادات جامعية عالية وقنوات فضائية تصدح فى كل لحظة بتعاليم الأديان، ليقدم للعالم نموذجا للتكامل الإنسانى والإخاء الوطنى الصحيح.

واقعنا الإنسانى المأزوم، لا يمكن تجاوزه سوى بالتكامل والتعايش والاندماج معاً.. تكاملٌ يسمو فوق كل العقائد الإنسانية والحدود الوطنية

أستاذ التنمية البشرية بجامعة الفيوم