رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد قطب.. ونجيب محفوظ


حديث نجيب محفوظ عن قطب قوله إنه كان يحضر إلى كازينو الأوبرا ويجلس مع محفوظ وعدد من الأدباء فيناقشهم ويستعرض معهم أفكاره الأدبية والنقدية، ويشير محفوظ إلى أن الجلسات معهم كانت قاصرة على الأدب والأجناس الأدبية فقط


 

فى هذه الأيام تحل علينا ذكرى وفاة الأديب المصرى الكبير نجيب محفوظ أستاذ الرواية العربية الحديثة، وفى الوقت ذاته تحل ذكرى إعدام «سيد قطب» أستاذ التكفير الأكبر فى عصرنا الحديث، والعجيب أنه قامت بين الاثنين علاقة وثيقة، فقد كان قطب فى بدايته ناقداً لا علاقة له بالإخوان من قريب أو بعيد، بل إنه كان يرى حسن البنا دجالا يخدع الصبيان! وبعد أن قرأ قطب رواية «كفاح طيبة» التى كتبها الأديب الشاب وقتها نجيب محفوظ كتب مقالاً أشاد فيها بالكاتب والكتاب،حيث قال «أحاول أن أتحفظ فى الثناء على هذه القصة فتغلبنى حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها! هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة الى هدوء الناقد واتزانه» ثم قال «إنه يعيد إلينا حقيقة الانتماء لمصر ذات الحضارة والتاريخ»وقال أيضاً فى مقاله: «لو كان الأمر بيدى لأمرت بطباعة هذه الرواية على نفقة الدولة وتوزيعها على كل المصريين كباراً وصغاراً، شباباً وشيوخاً، ولجعلتها فى كل يد» ومن هذا المقال انتبه الناس لنجيب محفوظ، وأخذ اسمه يتردد فى الأوساط الأدبية، إلا أن سيد قطب لم يتركه فقد كتب عنه وعن رواياته أكثر من مرة، بل إنه صب جام غضبه على النقاد الذين لم ينتبهوا إلىإحدى روايات محفوظ وقال إنه تأخذنا إلى أدب قومى حقيقى بعيد عن الشوائب الأجنبية، أدب يرتفع بالإنسانية، وفى الوقت ذاته يساير نظيره فى الآداب الغربية، وشيئاً فشيئاً أخذ محفوظ مكانته بالتدريج إلى أن وصل للقمة، ليس القمة فى مصر، ولكن القمة فى العالم كله حينما حصل على نوبل.

ويبدو أن شخصية «سيد قطب» تركت أثرها لدى نجيب محفوظ، ليست شخصيته كناقد أو أديب، ولكن شخصيته بعد أن تحول من النقيض إلى النقيض وأصبح إخوانياً ومنظراً لفكر شديد التطرف، يصم المجتمع بالجاهلية، ويتهم الجميع بمعاداة الإسلام، ترجم محفوظ هذه الشخصية بضيق أفقها وتطرفها فى رواية «المرايا» ووضعها فى شخص سماه «عبد الوهاب إسماعيل» جعله أديباً وشاعراً ثم إذا به يصبح متطرفاً لدرجة تكفير المجتمع، كانت شخصية عبد الوهاب إسماعيل قريبة الشبه من شخصية سيد قطب، وكانت تحولاته وكأنها تحولات قطب رصدها لنا محفوظ فى «المرايا» التى رصد فيها عشرات الشخصيات وأبدع تصويرها، إلا أننى أظن أن جانباً من هذه الشخصية كان يقارب شخصية «عبد الفتاح اسماعيل» الذى كان شريكاً لقطب فى قضية 1965 والذى تم تنفيذ حكم الإعدام فيه مع قطب ولكنه لم ينل نفس الشهرة وإن كان يقاسمه فى نفس الأفكار، وأظن أن محفوظ الذى كتب المرايا عام 1971 استمد اسم هذه الشخصية من عبد الفتاح إسماعيل، فكان عبد الوهاب إسماعيل أحد أبطال الرواية.

لم يكتب محفوظ عن سيد قطب «الإخوانى» من فراغ بل إنه اختلط به واستمع إليه وأدرك تحولاته وأسبابها النفسية، وأستطيع أن أعطى الريادة لمحفوظ فى تحليل الشخصية المتطرفة ذات النوازع الإرهابية، لأنه أرجع الأمر لعلة نفسية تصيب صاحبها فتجعله ذاتياً متوهماً نبوغه وانحطاط الآخرين، تسيطر عليه أوهام القداسة، فيشعر بالاستعلاء على الآخرين، وقد كانت هذه هىمدرسة الإخوان الفكرية، مدرسة تقوم على الاستعلاء تحت تأثير اعتقاد بأنهم هم وحدهم أهل الحق وغيرهم هم أهل الباطل، وأن الحق يجب أن يستعلى على الباطل، وتلك آفة نفسية رصدها محفوظ ببراعة الطبيب النفسى وهو يحلل لنا فى المرايا شخصية عبد الوهاب إسماعيل، أو قل شخصية سيد قطب ممتزجاً بصديقه عبد الفتاح إسماعيل، وقد كان قطب أو «عبد الوهاب إسماعيل فى المرايا هو النموذج الفريد لشخص واحد من الإخوان تكرر كثيراً وشاهدناه عياناً بياناً عندما وصل الإخوان للحكم.

وكما قلت كان محفوظ يعرف قطب معرفة وثيقة، وفى ذلك يقول فى مذكراته عنه بعد أن تحول للإخوان: ذهبت إليه رغم معرفتى بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه لى من متاعب أمنية، فى تلك الزيارة تحدثنا عن الأدب ومشاكله ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، كانت المرة الأولى التى ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذى طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامى إنساناً آخر حاد الفكر متطرف الرأى، ويرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقاً من فكرة «الحاكمية» وسمعت منه آراءه دون الدخول معه فى جدل أو نقاش حولها، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل الى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب».

ومع ذلك فإن محفوظ يحفظ له ما قدمه له وما أسهم به فى تقديمه للحياة الأدبية فيقول فى مذكراته إنه ظل يعتبر قطب «صديقاً وناقداً أدبياً كبيراً كان له فضل السبق فى الكتابة عنى ولفت الأنظار إليّ فى وقت تجاهلنى فيه النقاد الآخرون، ولتأثرى بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التى تدور حولها رواية «المرايا» مع إجراء بعض التعديلات البسيطة”.

وكان من حديث نجيب محفوظ عن قطب قوله إنه كان يحضر إلى كازينو الأوبرا ويجلس مع محفوظ وعدد من الأدباء فيناقشهم ويستعرض معهم أفكاره الأدبية والنقدية، ويشير محفوظ إلى أن الجلسات معهم كانت قاصرة على الأدب والأجناس الأدبية فقط.

وعاش محفوظ ليرى تلاميذ قطب وهم يحكمون جماعة الإخوان، ويبدو أنه توجس منهم خيفة لذلك عندما حدثه بعضهم عن روايته أولاد حارتنا ووجوب أن تصدر فى حياته اشترط أمرين، الأول أن يوافق الأزهر على طبعها، والثانى أن يقدم لها أحد الإخوان! وكأنه بذلك أراد أن يحظى بحماية دينية! وكان هذا الطلب كاشفا عن نفسية أديب تعرض لمحاولة اغتيال من شاب لم يقرأ له أبداً.

ومات نجيب محفوظ قبل أن يحكم الإخوان مصر ولكنه كان قد قال قبل موته يبدو أن الشعب المصرى يريد أن يُحْكَم بالإخوان! وحدث ما توقعه محفوظ، إلا أن الشعب استعاد وعيه سريعاً فحذف الإخوان من قائمته إلى الأبد.