رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التسريبات.. وأزمة الأخلاق


أثارت قضية تسريبات امتحانات الثانوية العامة لهذا العام وإلغاء مادة الدين وإعادة الامتحان مرة أخرى بل والإصرار على هذا التسريب بالرغم من التصريحات الوزارية التى صمت الأذان قبل هذه الامتحانات والتى كانت واثقة كل الثقة أن امتحانات هذا العام لا ولن يكون فيها حالة غش واحدة ولكن فوجئ الجميع ليس بحالات الغش التى اعتدنا عليها والتى تتم بكل الوسائل وعلى أعلى المستويات ولكن بعملية تسريبية لمجمل الامتحانات بنوع من التحدى العلنى لكل أجهزة الدولة فى حالة غير مسبوقة...

...نعم فقد حدث عام ١٩٦١ وعام ١٩٦٧ حالات تسريب للثانوية العامة ولكن كان هذا يتم فى إطار الحرب النفسية بيننا وبين العدو الصهيونى فى ذلك الوقت، نقول هذا قد أثار ما يسمى بـ«أزمة الأخلاق» فهل هذه القضية وما تم فى أبوقرقاص وتعرية المرأة المسنة وما يتم فى الإطار العام وفى كل المجالات من انحراف وفساد حتى إن توصيف الفساد الآن قد أصبح دولة فساد وليس فساد دولة فهل هذه قضية أزمة أخلاق أم ماذا؟ فهل المجرمون والبلطجية والمقامرون والمشككون هم أناس خرجوا من الحظيرة أو السرب الذى يرعاه الله والذى يخاف الله؟ هل هذه أزمة أخلاق لمجرد شذوذ هؤلاء وتلك الممارسات وخروجها عن الأخلاق والتقاليد والعادات الواحدة والحميدة لمجمل المصريين؟

هل هذه الممارسات هى مجرد خروج أصحابها عن قواعد الدين وكذلك يجب أن يعودوا فورا إلى سماحة الدين وقيمه؟ وهل حل تلك المعضلة ونهاية هذه المشكلة يأتى ويكون بالتحاور مع هؤلاء الخارجين لإقناعهم بالعودة إلى الأخلاق وإلى التمسك بالدين؟ لاشك أن هذا المنهج وذلك التفكير هو الذى نشاهده ونراه دائما حتى أصبح كالأسطوانة المشروخة التى تردد نفس الكلمات وذات اللحن الذى لا معنى له، وإذا كان الأمر كذلك وبهذه السهولة لماذا لا نرى أى رد فعل إيجابى أو أى حصاد فعلى لما تزرعه المؤسسات الدينية المساجد والكنائس حتى ما يتم فى المدارس من تعليم وتربية أو ما يشاهد فى الإعلام من برامج تربوية وأخلاقية خاصة تلك القنوات الدينية الإسلامية والمسيحية التى قد أصبحت مثل الهم على القلب؟ ولماذا نرى ونعيش هذا التناقض الغريب والمريب بين مظهرنا الدينى من التمسك بالنقاب والحجاب للمسلمات وتلك المظاهر التى نراها على الجانب المسيحى من إظهار الصليب مع النساء والرجال وتلك الوشومات على الصدر والأذرعة للقديسين إضافة إلى تلك التدفقات والمجاميع غير العادية التى تزداد المساجد والكنائس طوال الوقت لتأدية كل الصلوات.

وفى الوقت نفسه نجد أن السلوك نقيض ذلك، وأن الأفعال لا علاقة لها بذلك حتى أصبح الدين لدينا هو مجموعة طقوس شكلية وممارسات خارجية وأقوال شعاراتية كل هدفها إظهار حالة التدين الشكلى التى لا علاقة لها بالإيمان الحقيقى القابع فى الداخل والتى يترجم إلى أعمال تتسق وتعلن عن هذا الإيمان «الإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل».. «ليروا أعمالكم الصالحة ليمجدوا أباكم الذى فى السموات»، فهل القضية هى ذلك التدين الشكلى أم ماذا؟ لاشك أن الحديث عن تجديد الفكر الدينى الإسلامى والمسيحى فى أشد الاحتياج إليه خاصة هذه الأيام التى استبيح فيها كل شىء وأى شىء وأحيانا باسم الدين، ولكن هل هذا الطريق هو وحده المطلوب فقط أم أن هناك أسبابا أخرى قد تكاملت مع هذا الخطاب والفكر الدينى الذى أصبح أسير اجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان عند الجميع؟ بالقطع هناك طريق آخر لابد أن يتواصل ويتكامل مع تجديد الفكر الدينى.

فالمسألة ليست علاقتها بالدين والأخلاق فقط ولكن لها علاقة أيضا بقضية الحوكمة أى بقضية كيفية إدارة الشأن العام.. وهذا يعنى الإجابة على عدد من الأسئلة، ما مستوى التعليم الآن ومستوى المدرسين والمدارس والجامعات؟ ما المستوى الاقتصادى لعموم الأغلبية للشعب المصرى وما حدود تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية فى ظل تدنى الدخول أمام غول الأسعار؟ ما الخدمات الثقافيةالتى تقدم حتى نربى مستوى من التذوق والحس الفنى والعواطف الإنسانية؟ ما إمكانية الترقى الاجتماعى والوظيفى للمصريين بشكل عام؟ ما نوعية العلاقات الاجتماعية التى تربط المواطنين فى منطقة ما؟ هل يطبق القانون على الجميع دون تمييز؟ هل هناك شعور عام نزاهة القضاء؟

ولذا ففى حالة الفشل الإدارى وتفشى الفساد وسقوط المنظومة التعليمية وعدم وجود فرص عمل وفرص للترقى الاجتماعى وفى غياب العدالة والشعور العام بالظلم وانتشار حالات التمييز الاجتماعى والإيمان بعدم نزاهة القانون أو عدم العدل فى تطبيقه كل هذه الأمور تجعل ما نراه من عملية تسريب وما نشاهده من مناخ الفساد الذى أسقط كل القيم وتعدى كل الأخلاقيات شىء عادى جداً وطبيعى جداً. فمع الاهتمام بالأخلاق لابد من إعادة النظر فى كل ما سبق حتى نوصف الأمور توصيفاً صحيحاً حتى يمكن أن نصل إلى العلاج الصحيح والناجح بعيداً عن المواعظ النظرية التى لا تسمن من جوع، فالأخلاق تأتى عن سد الحاجة والقيم تربى فى مناخ المساواة والالتزام لا يكون بغير تطبيق القانون بحزم وحسم على الجميع بلا استثناء، والإصلاح لا يكون بالقطعة والتغيير لا يأتى بالحماس الوقتى الذى لا نراه وتتكرر المأساة، فلابد من أن تتضافر النيات وتتجمع الإرادة لإصلاح حقيقى وشامل حتى تكون مصر بحق لكل المصريين.