رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ومن نكد الدنيا على الحر العادل صاحب المواقف الذى منع تزوير انتخابات فى بداية حياته بالقضاء، أقول من نكد الدنيا عليه أن يتهمه أحد الساقطين من أصحاب العقول الممسوخة والأهواء الشيطانية، يتهمه بتزوير انتخابات بعد أن أصبح عيناً من عيون القضاء!.

المستشار على النمر «٢-٢»


كنت قد تحدثت معكم عن المستشار على النمر، ولأن قرار حياتى دائماً هو أن أخوض الصعاب لذلك أكتب لكم عن رجل غير عادى، والنمر بحق يستحق أن يوصف دائماً بالرجل غير العادى، فهو نموذج لشخصية نطلق عليها «السهل الممتنع» ولد فى الصعيد وما أدراكما الصعيد، وكان مولده فى مركز البدارى، وما أدراك ما البدارى، ذلك المركز الذى أنجب المستشار ممتاز نصار رحمه الله لحرى به أن ينجب على النمر، وإذا كان المستشار ممتاز نصار قد وصل إلى أعلى موقع قضائى فى مصر فى الستينيات ثم أصبح رئيساً لنادى القضاة إلى أن تم الإطاحة به عام 1969 فى مذبحة القضاة الشهيرة، وبعدها أصبح رجلاً من كبار رجالات مصر، حيث ترأس المعارضة بدءاً من برلمان عام 1976 وكان بحق أحد الذين يحق لنا أن نفتخر بهم وبمآثرهم، لقد كان ممتاز نصار رحمه الله رجلاً بأمة كاملة، ومعارضاً وطنياً من طراز لا يتكرر، وأظن أن داعى الكتابة سيدعونى ذات يوم قريب للكتابة عن هذا الرجل بالتفصيل.

ولكن ما الذى دعانا للخوض فى جانب من جوانب حياة المستشار ممتاز نصار ابن البدارى ونحن نتحدث عن المستشار على النمر؟! الأمر واضح لا غموض فيه، فالمستشار على النمر هو من أبناء البدارى أولاً ثم هو من تلاميذ المستشار ممتاز نصار المقربين، ومن تتلمذ على يد نصار لا شك سيكون قد اقتبس منه نوراً وعلماً وقوة شكيمة، ولذلك يعرف المقربون من على النمر علمه إلا أنهم يعرفون قبل ذلك قوة شكيمته وصبره.

تخرج المستشار على النمر فى كلية الحقوق جامعة القاهرة بتفوق عام 1976 وكان من الذين التحقوا بالنيابة العامة «دفعة مساعدين نيابة» وهى نفس دفعة المستشار نبيل صادق النائب العام الحالي، وكان من حظه أنه تلقى علوم القانون من أكبر رموز هذا العلم فى مصر والعالم العربي، وكان منهم أستاذ القانون الجنائى الأكبر محمود نجيب حسنى- رحمه الله- أستاذ القانون الجنائى وعميد حقوق القاهرة الأسبق، ويبدو أن هذا العلامة الكبير ترك بصمته على شخصية على النمر القانونية، فحين جلس النمر على منصة القضاء ليقضى بين الناس كانت مدرسته هى الموازنة بين الدليل والإجراء القانونى، ولم تسمح طبيعته بأن يتغلب الإجراء على الدليل، ولا أن يخرج الدليل للحياة وهو مشوه حابط الأثر منبت الصلة عن الإجراء، ولكنه كان فى أحكامه ـ وأظنه لا يزال ـ يوازن بين صحة الإجراء وقوة الدليل فى الإثبات، فلا يجعل هذا يتغلب على ذاك، ولا ذاك يفتئت على هذا.

ولكن أكثر ما يدل على قوة شكيمة هذا الرجل وحرصه على الحق والعدل مهما كلفه ذلك فهو موقفه مع المستشار ممتاز نصار فى انتخابات البرلمان المصرى عام 1979، وقتها كان على النمر حديث التخرج لا تزال أقدامه تخط أيامه الأولى فى النيابة العامة، وكما يقولون: كان اسمه لا يزال مكتوباً بالقلم الرصاص، وأى هفوة أو بادرة شجاعة قد تطيح به من النيابة العامة، ولكن ممتاز نصار هو الأستاذ وهو القيمة وهو الرمز، وكان قد قرر أن يخوض انتخابات برلمان 1979 عن مركز البدارى، والبدارى كلها قررت أن تقف صفاً واحداً مع ابنها الشامخ، ولكن النظام وعلى رأسه الرئيس الراحل السادات لم يكن يستسيغ قوة ممتاز نصار فى الحق، كان صوته رغم خفوته مدوياً، وكانت كلمة الحق منه تهز عروشاً، سبحان الله من أين أوتى هذا الرجل بهذه القوة؟ أتعلمون ممن؟! من أولئك الرجال الأوفياء الذين كانوا يؤمنون به وبوطنيته وعدالته وحكمته ويؤثرون أن يكونوا فى الخفاء لا يعلم عنهم أحد شيئاً، وقد كان على النمر من أولئك الرجال.

وقف على النمر على رأس اللجنة المشرفة على الانتخابات وقتئذ، وحين فرز الأصوات، وداخل اللجنة التى تقوم بالفرز، ووسط العشرات من رجال الشرطة المدججين بالسلاح والآخذين الأوامر المشددة بتزوير الانتخابات وإسقاط ممتاز نصار، إذا بالظلام يسود فجأة، فقدقامت جهة ما بقطع النور! وهاهم فى ظلام دامس، ومن الممكن أن يحدث عبث بالأوراق هنا أو هناك، ووسط هذا السكون إذا بصوت على النمر يرتفع ليصل إلى عنان السماء وليخترق أذن تعودت على طاعة الحكام، كان صوت على النمر منذراً حاسماً: فليتوقف الجميع عن الفرز، أى إضافة أو كتابة أو تدوين والنور مقطوع ستكلف صاحبها الكثير.

كان صوته يدل على أنه اتخذ أمراً لا تراجع فيه، وكانت نبرة صوته قد وصلت إلى أهله ورجاله وكل العوائل «البدارية» فعرفوا ماذا سيفعلون! وفى أقل من ربع ساعة كانت عشرات «الكولبات» التى تضىء الريف فتجعله نهاراً تملأ اللجنة، فأسقط فى يد الجهة التنفيذية التى كانت قد تآمرت لتزوير الانتخابات وإسقاط ممتاز نصار، ودارت عجلة فرز الأصوات وسط النور، وكان أن نجح ممتاز نصار بتفوق لا يستطيع أحد أن يكرر مثله.

ومن نكد الدنيا على الحر العادل صاحب المواقف الذى منع تزوير انتخابات فى بداية حياته بالقضاء، أقول من نكد الدنيا عليه أن يتهمه أحد الساقطين من أصحاب العقول الممسوخة والأهواء الشيطانية، يتهمه بتزوير انتخابات بعد أن أصبح عيناً من عيون القضاء!.

وإن أنسى لا أنسى موقفاً شاهدته بعينى، فحين كان المستشار على النمر رئيساً لإحدى دوائر الجنح المستأنفة حدث أن وقعت مشادة أليمة بين أحد القضاة الجالسين على المنصة وأحد الزملاء المحامين، وانفعل المحامى الذى لم تكن لديه خبرة لحداثة تخرجه وصغر سنه فأغلظ القول للقاضى بعبارات تعد سباً وتعدياً على هيئة قضائية، فاتهمته النيابة العامة بهذا الجرم، والحق كما قلت لكم إن صغر سن المحامى كان يجب أن تشفع له، ولكن تم تقديمه للمحاكمة، وأمام محكمة الجنح الجزئية صدر ضده حكم بالحبس، وقد أثار هذا الحكم المحامين، وتم عمل استئناف، وكان من حسن حظ المحامى أن كانت القضية المستأنفة ستنظر أمام المستشار على النمر، وكان النقيب أحمد الخواجة رحمه الله هو المترافع، فحدث ولا حرج عن قضية محاميها أحمد الخواجة وقاضيها على النمر، وكانت الصعوبة أن على النمر يقضى فى قضية أحد أطرافها زميل له، وخصمه أحد المحامين، مع ما فى هذه الفترة من توتر بين الطرفين، ولكن على النمر وإن كان مع القانون إلا أنه كان يبحث أولا ًعن روح القانون، لذلك كان قضاؤه بالإفراج عن المحامى.. وهكذا يكون القاضى، وهكذا هو على النمر.