جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عن الدراما فى رمضان


اكتشفت أخيرًا أن اللص ليس هو الذى يمد يده ـ فى غفلة منك ـ إلى جيبك ليسرق حافظة نقودك، ولكنى عرفت عن يقين لايتزعزع أن اللص الحقيقى هو من يسرق ـ وأنت بكامل وعيك ـ وقتك وعقلك وتاريخك.. بل ومستقبلك أيضًا !

ومع امتداد ساعات الصيام فى رمضان هذا العام فى الحرارة والرطوبة العالية، وحاجة الوجدان إلى الراحة بعد صيام الساعات الطوال هذه، وجدت أن الجلوس أمام شاشة التليفزيون هو عقاب صارم وصيام جديد عن كثيرمما يمُت بصلة إلى الفن والفضيلة وعالم الحق والخير والجمال...الذى تربينا وتعودنا عليه فى الدراما التليفزيونية فى الزمن الجميل إلا فيما ندر من أعمال، ونحن هنا لا نقعد على الاستثناء، فقد سقط صانعو الدراما المصرية فى بئر مداعبة غرائز المشاهدين بصرف النظر عن مشاهد العُرى التى لم تضع حسابًا لروحانيات الشهر الكريم؛ بل تعدت إلى الألفاظ ذات المغزى التى لاتقبل التأويل؛ فقدموا صوراً شائهة عن المجتمع المصرى بكل تحولاته الجديدة، محركين بداخله كل الشخوص صاحبة العاهات الخُلُقية: دون تقديم نماذج إيجابية بالقدر نفسه تحقق التوازن الموجود فى المجتمع بالفعل.. تمثل هذا فى شرائح غريبة من المجرمين والبلطجية والعاهرات وتجار المخدرات والقافزين لصدارة المجتمع عن طريق الثراء السريع وبكل الطرق غير المشروعة، لتصبح هذه النماذج القدوة والمثال أمام الشاب المصرى المتطلع إلى بدء حياته، فيصاب بالإحباط والتمزق بين الطموح والإمكانات المتاحة لديه بالطرق الشريفة النابعة من القيم الحقيقية للشعب المصرى، لأن وجبة الدراما التى تقدم إليه بهذه الكيفية تعد تشويهاً للتركيبة الاجتماعية المصرية التى خرج منها عظماء الأدب والفكر والسياسة والشعر.. والحكام الوطنيون أيضًا.

ولا أنكر أن المجتمع ـ وكل مجتمع ـ توجد به هذه النماذج المموجة، ولكنها ليست هى الأغلب الأعم كما يصورها كتابها ـ بوعى أو بغير وعى بغية الاستسهال وبحجة الواقعية فاختلقوا حوارات ومصطلحات نسبوها إلى قاع الحارة المصرية وهى منه براء، فالدراما التليفزيونية تدخل إلى البيوت عنوة وتخاطب كل الشرائح العمرية والعقلية فتترك آثارها على المشاهدين سلبًا وإيجابا، ولهذا كانت توجد لجان عليا متخصصة لمشاهدة الأعمال الرمضانية يرأسها الكاتب الكبير ورئيس أكاديمية الفنون وقتئذ أ.د. فوزى فهمى وظيفتها اختيار الصالح من الأعمال الفنية التى ستقدم فى الشهر الفضيل ولفظ الطالح منها الذى لايتفق ومبادئ وأخلاق مجتمعنا وحرمة الشهر الكريم.. ولكن أين هى الآن تلك اللجان التى كانت تعمل طبقًا لاستراتيجية تحدد أبعاد وأهداف المطلوب من الدراما التليفزيونية الرمضانية وبرغم ذلك لاننفى وجود بعض الأعمال التى لم تلق قبولاً آنذاك على قلتها! ورحم الله أيام كانت قلعة ماسبيرو يديرها صاحب الأهداف النبيلة والتوجهات الوطنية التنويرية د. ثروت عكاشة.

لعلنا بهذا نكون قد وضعنا النقاط فوق الحروف للأقلام التى خرجت فى الآونة الأخيرة تدافع عن هذه الدراما الهزيلة، بدعوى الدفاع عن حرية الفكر والإبداع ـ والتى أؤيدها شريطة الإجادة والإتقان والبعد عن الاتجاروالإسفاف على حساب الفن وجودته ـ !

ياسادة ياكرام صناع الدراما فى مصر.... هل عدمت مصر كتاب الدراما الجادة والهادفة حتى نرى ما يثير الاشمئزاز الذى يطل علينا بإلحاح من شاشات التليفزيون المصرى الذى علَّم المنطقة العربية بأسرها معنى الفن والالتزام بالمثل والأخلاقيات التى نحتاجها فى مرحلتنا الراهنة ؟!، هل سقط من ذاكرتكم روايات الكتاب المصريين العظماء بداية من نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله ومحمد فريد أبوحديد ويوسف السباعى ويحيى حقى وبهاء طاهر وصولا إلى مبدعينا من الشباب، والقائمة طويلة لايتسع لها المجال هنا؟!وهل نسيتم مدى النجاحات التى حققها كم الأعمال الفنية التى أنتجت معتمدة على النصوص الأدبية على مدى سنوات العصر الذهبى للفن المصرى؟! ليتكم بمعطيات هذا العصر تقتدون!

أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون