أنقذوا الصناعة المصرية .. شركة المراجل البخارية «5»
لا أنسى حتى هذه اللحظة نظرات الحزن والألم فى عين الأستاذ أحمد حمدى عبد القادر الشريف، والذى كان فى أوائل عام 1994 مديراً عاماً فى مصنع شركة المراجل البخارية، حينما أوقفنى ليقول لى: «خلاص هايبيعوا الشركة، عارفة يعنى إيه يبيعوا الشركة؟ يعنى نقضى على صناعة هاتخلينا متقدمين بين الدول وخصوصاً فى الطاقة النووية»، لم يترك لى الرد، واسترسل والكلمات تخرج من فمه متلاحقة: «تصورى، هايبيعوها بأقل من ثمن أرضها».
أعذرنى يا أستاذ حمدى، لم أكن أعرف وقتها حجم جريمة بيع شركة المراجل البخارية. لقد رحل عن دنيانا الأستاذ حمدى، الذى كان جاراً لى وقتها هو وأسرته الكريمة فى مدينة البدرشين. رحل والحسرة تملأ قلبه وعقله على الشركة التى أفنى عمره بها هو وزملاؤه من العمال والموظفين والمهندسين، الذين بنيت الشركة بسواعدهم. تمر الأيام والسنون على جريمة البيع. ويستكمل العاملون فى الشركة، ومنهم حسن حامد أبو الذهب- رئيس النقابة المستقلة فى الشركة- يستكملون الكفاح بكل الطرق لتنفيذ حكم المحكمة الإدارية العليا بعودة الشركة نهائياً فى 17 ديسمبر 2012.
تعالوا بنا نرجع ياسادة إلى بداية نشأة هذا الصرح العملاق سنة 1962 على مساحة 33 فداناً على النيل فى مدينة منيل شيحة بالجيزة المقابلة لمنطقة المعادى على نيل القاهرة فى الضفة الأخرى. وكانت الشركة تقوم بإنتاج مراجل سعة تبدأ من طن إلى 12 طناً فى الساعة فى المرحلة الأولى. ثم وصلت إلى ما يعادل 300 طن بخار فى الساعة. ومراجل توليد كهرباء سعة 300 ميجاوات. وقامت الشركة بتصنيع غلايات محطة توليد كهرباء شمال القاهرة بالتعاون مع شركة يابانية سنة 1990، كما قامت بتنفيذ محطات أخرى للكهرباء فى الكريمات وعيون موسى وسيدى كرير. وتنتج الشركة أيضاً مراجل مواسير مياه وأوعية غازات سائلة مثل تنكات النشادر، والتى كان يتم استيرادها من قبل بالعملة الصعبة. ومن إنتاجها أيضاً وحدات تنقية مياه الشرب، ووحدات تحلية مياه البحر بسعة 300 متر مكعب فى اليوم. وتزويد المستشفيات والمصانع بالغلايات والأوعية. كما أسهمت الشركة مع الهيئة العربية للتصنيع بإنتاج معدات تخص الإنتاج الحربى فى الفترة ما بين حرب الاستنزاف 1969 وحتى حرب أكتوبر 1973. ومن أهم إنتاج للشركة كان تصنيع بعض أجزاء المفاعلات النووية للطاقة السلمية. ومن هنا كان الاحتجاج والهجوم من جانب إسرائيل عند إنشاء الشركة عام 1962، سعياً لحرمان مصر من إنجازات تكنولوجية تمكنها من اللحاق بالعصر، حيث تدخل المراجل فى صناعات كثيرة تبدأ بالمفاعلات النووية ومحطات الطاقة الكهربية ولا تنتهى بالصناعات الغذائية والأدوية.
لقد بدأت الخصخصة بعد أن نص عليها اتفاق التثبيت والتكيف الهيكلى مع صندوق النقد والبنك الدوليين عام 1990. فبدأت التصفية بصدور القانون المشئوم رقم 203 لسنة 1991 كما قلنا من قبل، الذى حول هيئات القطاع العام إلى شركات قابضة تملك حق بيع وخصخصة الشركات التابعة لها من القطاع العام. قبل صدور هذا القانون كانت الشركة قبل تصفيتها، وعلى مدى ثلاثين عاماً، تنتج ما يكفى السوق المحلية المصرية ويتم تصدير الباقى للدول العربية بما يوفر مصادر للعملة الصعبة لمصر. الآن ياسادة، وبعد الخصخصة، نستورد غلايات مستعملة من أمريكا وإيطاليا وألمانيا بما يقرب من مليار دولار سنوياً. أليس ما تم من جريمة بيع الشركة يقع تحت بند الخيانة لهذا البلد العظيم مصر؟ أليس مما له مغزى عميق أن تكون تلك الشركة الاستراتيجية هى أولى الشركات التى تم خصخصتها؟!
نعود إلى بداية المؤامرة فى 30 يونيو 1991 بدأت أولى خطوات التصفية على يد الشركة القابضة للصناعات الهندسية بقيادة المهندس عبد الوهاب الحباك. فى 19 ديسمبر 1992 تقرر تشكيل لجنة للتفاوض مع ثلاث شركات أخرى للمشاركة مع شركة المراجل والعمل معاً كشركة واحدة. فى 29 يوليو 1993 بدأت الاستعانة بشركة «فيكتور» الأمريكية لعمل دراسات تمهيداً لبيع الشركة. فى 4 فبراير 1994 بدأت خطوات البيع فى عهد الدكتور عاطف عبيد كوزير لقطاع الأعمال فى وزارة الدكتور كمال الجنزورى. واستمرت الخطوات إلى أن تمت الموافقة على بيع الشركة عندما كان الدكتور عاطف عبيد رئيساً لمجلس الوزراء، الذى عين سكرتيره المهندس مختار خطاب وزيراً لقطاع الأعمال، وذلك فى 13 أبريل 1994.
«اتفرج وشوف النهب والفساد على المكشوف». تمت الموافقة على بيع الأصول الثابتة للشركة فى ذلك الوقت بـ 11 مليون دولار بما يوازى وقتها 33 مليون جنيه. يا بلاش. أصول ثابتة من معدات ومنشآت قيمتها الحقيقية سنة 1992 400 مليون جنيه. وكانت الأرض المقامة عليها الشركة، وتبلغ 33 فداناً على نيل مصر، تساوى وحدها 300 مليون جنيه. هذا غير قيمة الاسم التجارى للشركة والتصاريح الخاصة بالشركة،والصادرة من ألمانيا لصناعة البخار. كل هذا بملاليم يا سادة فى صفقات عادت بالملايين على الفاسدين المتآمرين.
لم يصمت العمال الشرفاء. كانت الدعوة القانونية الأولى ضد بيع الشركة فى يناير 1995 بواسطة المحامى الفارس النبيل نبيل الهلالى، مع المناضل النقابى فايز الكرتة. وتم حفظ القضية لأسباب غير معروفة.
واستمرت محاولات استعادة الشركة قانونياً أمام القضاء الإدارى، والذى كان حكمه لصالح عودة الشركة وتشغيلها فى 21 سبتمبر 2011. وبعد عدد من الطعون من جانب الدولة كان حكم المحكمة الإدارية العليا النهائى هو عودة الشركة فى 17 ديسمبر 2012 انتصارا لإرادة العاملين بالشركة. ولم يتم تنفيذ الحكم لأكثر من عامين حتى الآن. لصالح من تعجز الحكومة عن تنفيذ حكم قضائى نهائى؟ لصالح من تصفية وتدمير الشركة؟ لصالح من تشريد العمال والخبرات المصرية؟ ألم أقل لكم أن الحرب على الفساد تساوى الحرب على الإرهاب؟