جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

آباء الثورة المصرية "3"


كان المفكر السياسى الكبير «محمد سيد أحمد» واحداً من الرموز الفذَّة التى مرت بتاريخ الحركة الوطنية المصرية، الحافل بالأبطال والنبلاء الذين دخلوا السجون وعُذبوا فى المعتقلات وكانوا وقوداً للثورات، وحين أعتقل أول مرة، زاره أبوه «عباس باشا سيد أحمد» - محافظ بورسعيد آنذاك - فى المعتقل ومعه صيغة تعهد بعدم الاشتغال بالسياسة، فرفض الابن مقابلة أبيه، حين علم من مأمور السجن سبب الزيارة، وآثر البقاء فى المعتقل.

وقد أمضى المفكر الكبير وهو أكثر مفكرى اليسار «ليبرالية» وانفتاحاً على الدنيا بحكم ثقافته الرفيعة «الفرنسية والإنجليزية».. أمضى فى السجون نحو سبع سنوات متفرقات!

وحين زرته فى بيته بالزمالك قبل عشر سنوات، قال لى إن شقته التى نجلس بها هى آخر ما بقى له من «حطام الدنيا» قالها وهو يمصمص شفتيه، فهو ابن عائلة الباشاوات وسليل النخبة الارستقراطية، فالأب والأعمام والأخوال باشاوات وزوج عمته هو إسماعيل صدقى باشا صاحب المعاهدة الشهيرة مع بريطانيا عام 36، وقد عاش طفولته وصباه فى القصور تحت رعاية خاصة ومربيات بريطانيات.

ثم حدث التحول فى حياته، بعد اعتناقه الماركسية، فتمرد على حياة القصور وعاش فى الشارع مع الحفاة، وانتهى به المطاف فى نهايات العمر فى الشقة «اللى حيلته» وكان سعرها سبعة ملايين جنيه، بعدما أنفق كل ثروته الأطيان الزراعية والعقارات على الحركة الوطنية.. تماماً مثلما فعل «فريدريك إنجلز» البرجوازى المثقف، الذى بدد ثروته كلها لنشر أفكار صديقه كارل ماركس بدءاً بطباعة «البيان الشيوعى» الذى شارك فى إعداده وهو المانفستو، المؤسس للشيوعية فى العالم ونهاية بطباعة كتاب «رأس المال» الذى أحدث زلزالاً فى الفكر الاقتصادى.

كان مقرراً أن نتحاور لمدة ساعة، فإذا بالحوار يمتد لثلاث ساعات وقال لى إنه ليس نادماً على شىء، ولو عادت به الدنيا إلى الوراء لما تغير اختياره، فالحياة ــ كما يقول ــ قطار يمضى وكل واحد يختار موقعه داخل عرباته!