قصتى مع كلية الحقوق
حياة الإنسان محطات تحدد طريقه وتشكل رؤيته وتصنع مستقبله، تلك هي حكمة الكون التي أدركتُها في كل سنوات عمري، لكن رحلتي الدراسية والانتساب لكلية حقوق جامعة القاهرة تظل محطة ثرية ونقطة مفصلية في رؤية الذات والعالم، فقد عايشتها باختياري وأكملتها بشغف وسعادة، ولِمَ لا وهي كلية العظماء والكبار من الأساتذة وفقهاء القانون في مصر والعالم؟ إنها كانت المخرج لي من انكسار وحزن لفراق والدي الحبيب الدكتور مصطفى لبيب عام 2016، ولعل خبرة العمل مديرًا لمكتب رئيس مجلس الوزراء فى فترة من الفترات قد كشفت لي أهمية دراسة القانون وحتمية فهم فلسفة النصوص وما بين السطور، واكتملت فرحتي بالتخرج والحصول على ليسانس الحقوق بعد سنوات من الدراسة الممتدة بين الاستمرار والتأجيل لضغط العمل.
لم أكن أتصور يومًا أن أعود إلى مقاعد الدراسة مع طلاب يصغرونني بسنوات فى تخصص جديد، نعم إنها رحلة، لكنها رحلة شائقة أثَّرت في حياتي، وأثْرَتْ معلوماتي، ووسعت مداركي، وغيرت نظرتي لأمور عديدة، وعلى عكس السائد والمتوقع فلم تكن الدراسة نظرية بل خبرة حياتية وعملية، أضافت لشخصيتي بعدًا جديدًا لضرورة الفهم العميق والتسلسل المنطقي في تناول الموضوعات، وحلها، وليس مجرد الحفظ. إن التعلم المستمر له متعة، ويا لها من متعة.. ذهابي إلى الامتحانات وشعوري بالتحدي واحتكاكي بالفئة الشبابية بما تحمله من أفكار وتجارب مختلفة، ولكنها ملهمة بحق.
معلومات جديدة، وتصحيح لأخرى تسربت إلىَّ في خضم الحياة، أضافت أسبابًا إلى أسباب فخري بمصريتي وأضفت علىَّ روحًا سعيدة، وآفاقًا مختلفة.. إن لهذه الرحلة حصادًا لم أكن أتوقعه قبل البدء، فقد شاهدت حجم إبداعات المشرع المصري وعظمته فى التعامل مع التحديات كافة، وعرفت من دراسة تاريخ القانون أن مصر القديمة سبقت غيرها من الأمم- ضمن السبق المصري- فى إقرار قواعد التعايش والتحضر والأخلاق والنظام والعدل من خلال قانون ماعت، كما أن المبدأ الذهبى المتمثل في مقولة "العدل أساس الملك" يعود في أصله إلى "شريعة حمورابى أو قوانين حمورابي" التى دشنها الملك حمورابى سادس ملوك بابل. ومن فلسفة القانون إلى أصول الفقه وعظمة الشريعة الإسلامية في المواريث والقانون المدني والجنائي، وصولًا إلى تجارب القانونيين المصريين الرواد وإسهاماتهم الجلية.. فما أروعهم من فقهاء ملؤوا الدنيا عدلًا بسن القوانين التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، منهم- على سبيل المثال- الفقيه عبدالرزاق السنهوري، حارس القانون وعملاق الأحكام المدنية والمساهم في صياغة دساتير عدة دول عربية.
وجذب انتباهي لوحات الشرف المُعلقة بحرم الكلية، وهي تقليد مميز، تتضمن صورًا ممهورًا بها أسماء خريجى الكلية الذين شغلوا مناصب مهمة؛ وطنية ودولية، بداية من رئاسة الجمهورية وصولًا إلى الوزراء والمسئولين الكبار وموظفي المنظمات الدولية.. فها هو مصطفى النحاس باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وعبدالخالق ثروت باشا، وأحمد لطفي السيد باشا، والدكتور صوفى أبوطالب، والمستشار عدلى منصور، والدكتور بطرس بطرس غالى، والدكتور عاطف صدقي، والدكتور حازم الببلاوي، والسيد عمرو موسى، والدكتور نبيل العربى، والعديد من الفقهاء والوزراء والشخصيات العامة، مثل الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، والدكتور أحمد حسن البرعى، والدكتور فتحى فكرى، والدكتورة آمال عثمان، والدكتورة عائشة راتب، والدكتور أحمد جمال الدين، والدكتور لبيب شقير، والدكتور كامل ليلة، والدكتور أحمد فتحى سرور، والدكتور رفعت محجوب، والدكتور مفيد شهاب..وغيرهم.
ولم تمنعني جائحة كورونا من مواصلة الرحلة، فقد كانت محنة في طياتها منح كثيرة للتعليم والحياة، وأصبح موقع الكلية الإلكتروني عقب الجائحة منصة تفاعلية للتواصل والتعلم والتكليفات البحثية، ورأيت كيف أصبح لدى مصر مواقع علمية ثرية، مثل بنك المعرفة الذي ساعدني كثيرًا في أبحاث الكلية، واستطعت من خلاله مطالعة الكثير من الموسوعات القانونية القيمة النادرة، مثل موسوعة السنهوري. ودفعني ذلك إلى التفكير في العلاقة الجديدة بين القانون والتكنولوجيا، وأيهما يسبق الآخر، وهل يمكن ملاحقة القانون للتطورات التكنولوجية المتسارعة، وكيف يمكن لمشروعات الرقمنة في قطاعات العدالة إنفاذ القانون، وكيف يمكن أن تساعد في تحقيق العدالة الناجزة، وكيف لي أن أوظف ما درسته في مجالي القانون والاتصالات باعتباري مهندسة ونائبة وزير الاتصالات في خلق نموذج عمل جديد يحقق تلك المستهدفات الرقمية والتنموية وصولًا إلى مجتمع رقمي تفاعلي آمن ومنتج ومستدام.
كنت أظن أنني بمجرد التخرج سينقطع الشغف، لكن الحقيقة إنها رحلة مستمرة لا يمكن إيقافها، فهناك شيء يجذبني لمواصلة طريق البحث عن الحقيقة والجديد، فوجدت نفسي مهتمة بمجال الملكية الفكرية، ليس باعتباره مجالًا قانونيًّا فحسْب، ولكنه مجال متنوع يجمع القانوني والتكنولوجي والأدبي والتاريخي وغيرها، واختلفت نظرتي لأصول المؤسسات ومواردها، فهي ليست فقط الأصول المادية ولكنها تتضمن أصولًا غير ملموسة تتصل بالملكية الفكرية، مثل العلامات التجارية وبراءات الاختراع وحقوق التأليف والنشر، فنجد في الشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات ما يُعرف بمحفظة البراءات، وهو تطور متزايد تؤكده الإحصائيات، فبعد أن كانت نسبة الأصول المادية في معظم الشركات تتجاوز الـ60% من إجمالي أصولها في فترة الثمانينيات من القرن العشرين أصبحت تشكل نحو 30% فقط أو أقل خلال العقد الحالي.
وازدادت سعادتي بالإدراك الاستباقي للدولة وقيادتها والمشرع المصري لهذه التطورات؛ حيث بدأت مصر تقنين الملكية الفكرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بصدور قانون العلامات والبيانات التجارية عام 1939، وقانون براءات الاختراع والرسوم الصناعية عام 1949، وقانون حماية حقوق المؤلف عام 1954، وصولًا إلى القانون الموحد لحماية حقوق الملكية الفكرية عام 2002 سابقًا لقوانين غيرنا من دول المنطقة، وباتت لدينا استراتيجية وطنية للملكية الفكرية يتم تنفيذها من خلال الجهاز المصري للملكية الفكرية كآلية وطنية جديدة. حقًّا إنها مصر الكبيرة بمؤسساتها وأبنائها، فالكنز بين أيدينا ممتلئة به مصر الحبيبة، ولكننا نحتاج أن نبحث بلا كلل ولا ملل، لا بد أن تستمر الرحلة ويبقى للحديث بقية..