بحر العرب
على سفوح حوض نهر النيل الغربى، على بُعد مئات الكيلومترات من مجرى النيل الأبيض، ركضت ظبية بين سيقان الإبل وحوافر الثيران، يطاردها شبل يعانى توترات جسدية مؤلمة، وكلما اقترب منها وأوشك على الإمساك بها تخلَّصت منه ببراعة، وانطلقت تعدو قفزًا بين قطعان الماعز والأغنام، لتختفى وسط الغبار الكثيف. عكف يتتبع آثارها ويتشمم رائحتها على أديم تربة طينية يغلب عليها لون الحمرة، جرفتها منذ الأزل سيول الأمطار الموسمية القادمة من قمم جبال وهضاب دارفور وجبل «مرة» باتجاه نهر النيل العظيم. على حافة الخور الشرقى حيث تنحدر الأرض بميل شديد لمح «التلب» ابنة عمه «مسك الجنة» تقف مطمئنة سامقة مثل عود من الخيزران واثقة بكونها تمكنت من الاختفاء، تسلل الليث الصغير بنعومة مختفيًا بين قطعان الضأن الحُمرى، حذرتها البنات، لكنه كان قد اندفع ناحيتها بقوة، سقطا معًا يتدحرجان على منحدر الخور الزلق، رزحت فوقه وهى تلهث، كالت له الضرب والركل وقامت تعدو هاربة، لكنه أمسك بها واشتبكا فى عراك عنيف، للمرة الثانية تمكنت من التخلص منه، ركض خلفها فوق الأراضى الزلقة، زَلَّت فى الوحل، ربض فوقها، وكلاهما يلهثان، تمدَّدت تحته مستسلمة، تنظر إليه بابتسامة واسعة وكأنها المنتصرة، مدت له مديته التى خطفتها منه منذ قليل، منع جاهدًا قبضته من كيل الضرب لها، وقد شلَّه وجهها الخمرى وشعرها الناعم المبعثر حولها فى الوحل، حاول أن يأخذ مديته فذهبت بيدها بعيدًا وعادت ضحكتها تغرِّد فى فضاء سهوب الساڤانا الكثيفة، أخذ ما له واستدار راحلًا، أمسكت به من جدائل شعره الطويل المفتول حتى كتفيه وجذبته ناحيتها، قبَّلته بضراوة ارتجَّ لها جسده، دفعها بعيدًا عنه وقام عائدًا لمرحال العشيرة.
سَاقَ الرعاة من أبناء عشيرة ود النور الحَمَرى، أحد أفخاذ قبيلة الحَمَر، قطعانهم من الإبل والضأن الحَمَرى فى مرحال الظَّعْن الموسمى، كانت العشيرة قد شدَّت رحالها من شمال كردفان بعد موسم خريفى شحيح ضربتهم فيه رياح الجدب، وطعنتهم رماح القحط، فشدوا الرحال مبكرًا مع نهاية شهر ديسمبر من العام المنصرم نحو مصايف الجنوب الواقعة حول خط عرض «١٠٠» شمال خط الاستواء، حيث تتوافر المراعى والمياه على مدار العام.
نُصبت الخيام تحت أشجار «الضرا» المُوَرِّفة العملاقة، أشعلت النسوة النيران، انهمكت الحاجة فاطمة فى إعداد خيمتها لاستقبال أهلها، الذين يقطنون مدينة «الرهد»، الواقعة شمال كردفان، فى ذاك الوقت كان التلب، ابن العشق الملتهب بين الشيخ مبارك من دار الحَمَر والأميرة فاطمة ابنة الجوامعة، يعدو وخلفه كلبه البرى «يالمرز»، داخل مخاضات بحر العرب، يبحث كالمجنون عن ابنة عمه «مسك الجنة»، التى توارت خلف عشرات الضأن التى نزلت المياه للشرب ونفض حشرات الساڤانا عن أجسادها.
كانت قد هدمت لتوها القصر الذى بناه من الطين الأحمر، والذى يشبه قصر حاكم الأُبَيِّض، الذى زاره مع جده شيخ العشيرة قبل شروعهم فى المرحال، وذلك عقب تَحدٍّ بينه وبين ابنة عمه التى أشاعت بين صِبْيَةِ وبنات القبيلة أن التلب لم يسبق له رؤية شىء من هذا القبيل، وعندما انتهى منه، دفعت أحد أبناء العم لدعوته، وما إن اختفى حتى قامت بهدم ما بناه، وأسرعت تختفى بين الضأن التى كانت تخوض فى البركة المترامية الأطراف.
دخل التلب وخلفه كلبه البرى الذى أثار الذعر بين النسوة ودهشتهن وإعجابهن بألوان فروه المزركشة باللون الأحمر والأسود والأبيض والبنى والأصفر، دار بعينه بحثًا عنها.. كان يعلم أنها ستحتمى بالجدة، لم يعن له صياح النسوة الغريبات اللائى جلسن حول الجدة وهن يرحبن بقدومه، لم يرَ تلك الصبية الجالسة بجوار أمه، التى لم تتجاوز السبع سنوات ويدعونها «ست النفر»، وكانت قد جاءت خصيصًا تحمل معها أحلام البراءة والمَحَبَّة، وتلمس التَّوْق، والرَّغْبَة، والاكتشاف المبكر لعواصف اللَّذَّة، لترى الزوج الذى قُدِّرَ أن يكون لها قبل أن تولَد بسنوات، ذاك الصبى المليح ذو الشعر المفتول الذى ينسدل طويلًا حول كتفيه.
أخفت أمه حرجها من ابنها الذى تجاهل الترحيب الهائل الذى استقبله به خالاته ونساء أخواله، وقامت وأمسكته من معصمه وجذبته ليجلس جوار ابنة أخيها عنوة، وعيناه لا تطرفان عن متابعة تلك المتوحشة التى تطل من وراء الجدة وهى تكتم ضحكة ساخرة.
فى اليوم التالى غادرت أسرة العروس مضارب مرحال الحَمَر، عائدين إلى مرحال البقارة، ومعهم طفلتهم التى لم تتوقف عن لَىّ عنقها إلى الوراء عَلَّها تلمح الفتى الذى اختاروه لها من قبل أن تخلق نطفتها فى الأرحام، واختارته هى منذ الأمس مرسًى لقلبها الطفولى.
لمح التلب ابنة عمه تمر من بعيد باتجاه المفيض المائى، تابعها من البر العشبى وخلفه كلبه البرى «يالمرز»، غابت عن مضارب القبيلة، لمحها تخوض فى مفيض نهر بحر العرب، انْقَضَّ عليها من الخلف، أمسك بشعرها الناعم وشده بعنف، وهو يردد ساخطًا كيف بلغت بها الجرأة أن تشيع عنه الزواج ببقرة، دفع رأسها لأسفل حتى غمرته المياه، قاومته دون أن تستطيع الفكاك، نبح يالمرز نباحًا قويًا، وقفز فى الماء، سبح نحوهما يدافع عن الصبية التى توشك على الموت بين يدى صاحبه، نهش معصمه، تركها مرغمًا، وعندما خفت يداه عنها انتشر شعرها على وجه الماء، رفعت رأسها وهى تشهق، استدار راحلًا وقد خف غضبه ورحلت رغبته فى قتلها، هزت رأسها تنفض عنها الماء، فعاد شعرها الحالك ينتشر فى الفضاء، ركضت خلفه وأمسكت بكتفيه غيلة وأدارته ناحيتها وهبطت بثغريها الممتلئين تُقبِّل شفتيه عنوة، وتركته راحلة ومعه شهد رضابها الذى يبارى رحيق الزهور حلاوةً، تراخت ساقاه، وهو يوشك على السقوط فى الماء، وحلو مر غامض أودى بأعصابه، استجمع قواه ووقف، الْتَفَّت ناحيته، وقالت: شنو تتجوز بنات البقارة؟ أنا نبى لك ناقة.. نبى تتجوز غزالة.. واستقامت بجسدها السمهرى، وقذفت بنهديها الصغيرين للفضاء، وكلاهما لا يدريان إذا كانت تلك قطرات ندى أم دموعًا تسيل على خدَّيْها، قالت بتحدٍّ:
- تزوجنى أنا يا بن عمى، أنا «نايا» اللى أحق بيك.
مقطع من رواية: «رقص الإبل»