وضع معقد
ارتفاع درجة حرارة الأحداث يجعل المنطقة أشبه بقدر يغلى على نيران متقدة، وكلما مر الوقت زادت درجة الغليان، وتداخلت المكونات فى بعضها بعضًا ليصبح الوضع معقدًا أكثر.. بغض النظر عن تحليل ما جرى فى يوم ٧ أكتوبر، فإن إسرائيل تحاول أن تستغل الحدث لمصلحتها لأقصى درجة، وتلقى بمجموعة من أوراق اللعب على المائدة، وكلما أفسدت مصر أثر إحدى الأوراق تنزل إسرائيل بورقة أخرى على عادة المقامرين المحترفين.. وكانت أولى الأوراق هى المطالبة بتهجير الغزاويين إلى سيناء ريثما تفرغ إسرائيل من إبادة غزة وتصفية القضية للأبد، وقد ردت مصر بخشونة يمكن القول معها إنها مزقت كارت اللعب وألقته فى وجه إسرائيل، وبعد عشرات الوساطات من أمريكا وأوروبا اقتنع الجميع بأن «الكارت محروق».. تم تطوير الفكرة بعدة صياغات، ولكن الأهم هو فهم ما وراءها.. فى بعض التفسيرات فإن تصفية القضية كهدف سياسى، أو تأمين إسرائيل من الهجمات كهدف أمنى ليسا الدافع الوحيد لتفكير إسرائيل فى طرد أهل غزة أو إبادتهم إذا استطاعت.. هناك دافع آخر اقتصادى وهو قناة بن جوريون التى تهدف لمنافسة قناة السويس.. تهدف القناة لربط البحر الأحمر بساحل غزة على المتوسط.. جغرافيًا فإن المرور عبر غزة هو أقصر طريق للقناة.. فى هذه الحالة فإن تفريغ غزة من سكانها هو الهدف الحقيقى لإسرائيل.. لكن هذا المشروع لن يتم.. ستراق دماء إسرائيلية تكفى لملء قناة بن جوريون هذه قبل أن يتم حفر متر واحد فيها، لكن الحديث عن هذه القناة يمكن أن يكشف نوايا إسرائيل للعالم، ويشرح رغبتها فى إعادة احتلال القطاع بعد الانتهاء من الحرب التى لا يبدو أنها ستنتهى قريبًا، من ناحية مصر فإن الجيش فى أعلى درجات الاستنفار واللياقة وهو ما يثير قلق الإسرائيليين بالفعل.. لكن مصر ترفع شعارًا يقول: لكل حادث حديث، ولكل مقام مقال.. مصر تريد فتح معبر رفح على مدار الثانية ولكن لإدخال المساعدات لأهل غزة وليس لاستقبالهم فى سيناء.. لأن نزوح أهل غزة يعنى تنفيذ المخطط الإسرائيلى.. هذا ما لا يفهمه بعض المراهقين وأدعياء السياسة لدينا.. من مصلحة مصر مساعدة أهل غزة على البقاء والصمود لأسباب قومية ودينية وسياسية وتاريخية.. لكن ذلك لا يعنى أن نساعد إسرائيل فى تحقيق مخططها.. لا أحد يوافق على استمرار جرائم إسرائيل فى غزة، ومصر تمارس كل جهد ممكن لفرض هدنة مؤقتة ثم دائمة، لكننا يجب أن نعلم جميعًا أن الحرية لها ثمن يدفعه الفلسطينيون عن رضا وقناعة، ودفعته كل الشعوب الباحثة عن الحرية.. الجزائريون قدموا مئات الآلاف من الشهداء حتى سُميت ثورتهم ثورة المليون شهيد.. قبلها قال أحمد بك شوقى فى مناصرة ثورة أهل سوريا ضد الانتداب: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدق.. والمعنى أن الشعوب تنال حريتها بالقتال وبالصمود وبالدماء، وإن هذه هى طبيعة الصراعات.. هناك فهم غير واقعى لطبيعة الصراع الحديث عمومًا، وإلى جانب المزايدات التى تقوم بها لجان «الإخوان- الصهاينة» هناك ما يمكن تسميته بمتلازمة «وامعتصماه»، وهى قائمة على قصة تقول إن امرأة مسلمة تعرضت لاعتداء فى مدينة حدودية مع الروم «تركيا حاليًا» فأرسل المعتصم جيشًا لنجدتها.. ورغم أن القصة غير مدققة تاريخيًا لكن المعتصم كان يقود إمبراطورية عربية ثرية.. وسياستها فى التوسع كانت قائمة منذ نشأتها.. وكانت لها موارد مالية عملاقة من خلال ضرائب قاسية على أهل البلاد التابعة لها مثل مصر والعراق وسوريا وتونس.. إلخ.. ومع ذلك فقد كان المعتصم آخر خليفة عباسى يمكنه تلبية هذا النداء، لأن حكمه كان نهاية العصر العباسى الأول وبعده وصل الخلفاء لحالة مزرية من الضعف، وتلاعب بهم جنودهم.. والمعنى أن هذه الحالة «المعتصمية» حالة مرتبطة بظرف زمانى ومكانى معين لم يعد قائمًا منذ مئات السنين.. وإعادة اجترارها من قبل لجان الإخوان لا يعدو كونه مجرد جهل بالتاريخ، أو ابتزاز رخيص، أو إلقاء مزيد من الملح على جراح الناس، مصر تستعد لكل الاحتمالات، ولكننا نعلم أيضًا أن الحرب ليست نزهة.. لو كان الأمر ذلك لحاربت الصين لإعادة تايوان، ولاستخدمت روسيا آلاف الرءوس النووية لديها فى إبادة أوكرانيا، ولأطلقت إيران نيرانها بلا حساب، ولأعلن الجيش التركى الحرب على إسرائيل.. ليس فى الأمر أى تخاذل من أى طرف، لكن للأمر حسابات دقيقة.. وهذا هو علم الحرب الحديث، لذلك وبحسابات المنطق فإن كل صوت يسعى لتسخين الأوضاع داخل مصر هو صوت مُعاد للمصلحة الوطنية، ويسعى لخدمة إسرائيل، سواء عن جهل أو عن علم أو عن تواطؤ أو عن خيانة.. النتيجة واحدة فى كل الأحوال.. وعاشت مصر فوق الجميع.