في ذكراه.. ماذا قال صلاح عبدالصبور عن تجربته الشعرية؟
"حديث الشاعر عن تجربته مع الشعر كحديثه عن تجربته مع الحب، كل جميلة بمذاق، وكل قصيدة للشاعر هي غرام جديد، يقترب منه وقد نفض عن نفسه أثقال تجربته الغاربة، كأنه يواجه الشعر للمرة الأولى".. بهذه الكلمات بدأ الشاعر صلاح عبدالصبور حديثه عن تجربته الشعرية في مقال له نشر بمجلة "الآداب" بعددها رقم 3 الصادر بتاريخ 1 مارس 1966.
وتابع: هذا إحساسي حين أقدم على الكتابة، فأنا رغم عشرتي الممتدة للشعر قارئًا وكاتبًا زهاء عشرين عامًا، ما زلت أواجه الإبداع بذات القلق والتلمس، فإذا جادت علي الألهة بالمطلع - كما يقول فيولين - سعيت حتى استمطرت الأبيات التالية له، ثم أجدني أنفصل شيئًا فشيئًا عن عالم الأشياء من حولي لأدخل عالم تصوراتي وأنغامي، وحين تنتهي القصيدة أبدًا في اكتشافها من جديد، وقد أعيد أنقح، وقد أطوي الصفحات أو أمزقها، ذلك حين يستيقظ في نفسي من جديد ذلك الروح الناقد الذي غاب زمنًا عن أفقي.
واستطرد: أظنني لم أدرك أن الشعر هو طريقي الأول إلا في عام 1953، أما قبل تلك الفترة فقد كنت مشغولًا بأشياء كثيرة، كنت أحاول القصة القصيرة، والكتابة الفلسفية على نمط محاورات أفلاطون التي قرأتها في مطالع الصبا بترجمة حنا خباز وفتنت بها فتونًا، ولكن في ذلك العام تحددت رغبتي الأدبية، وارتبطت بالشعر ارتباط التابع بالمتبوع.
وأوضح: وأنا ممن يظنون- وهو قلة- أن قول الشعر جدير وحده بأن يستنفد حياة بشرية توهب له وتنذر من أجله، وقد وهبت الشعر حياتي منذ ذلك الأمد، وجهدت حتى أصير شاعرًا له مذاقه الخاص، وعالمه الخاص، ولا أظن أني فرطت أبدًا في تقديم قرابيني للشعر، وقد يكون قد قبل بعضها فجاد علي برضوانه، أو استقل شأني أحيانًا أخرى فحرمني من جنته، ولكني لم أتمهل في حجي إليه قط.
وذكر: كنت أعتقد دائمًا أن عدة الشاعر هي رؤية شعرية حية، وثقافة معاصرة متأملة، أو بعبارة أوضح وجدان يقظ وفكر لماح مدرب، الشاعر بحاجة إلى رضا الإلهيين الأسطويين، وبونيز بوس إله البداهة والإحساس المنطلق والنشوة المجنحة، وأبولو إله الفكر والتأمل والمعرفة، أما البداهة والنشوة فهي ظاهر القصيدة العظيمة، ولكن تحت هذا الظاهر باطنًا عميقًا نافذًا.
واختتم: قد حاولت الشعر أول ما حاولته محاكاة للنماذج التي أحببتها، وعندي قدر لا بأس به حاكيت فيه المتنبي، وقدر آخر لا بأس به حاكيت فيه أبا العلاء، ثم قدر آخر حاكيت فيه بعض الشعراء المعاصرين كإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل، ولكني رغم إعجابي بهؤلاء الأربعة توقفت فترة من الزمن لأسأل نفسي: ما الشعر؟.. وأنا كثير التأمل في شأن الشعر، متعدد المواقف تجاهه.