«أقفاص فارغة».. بداية ونهاية.. بطعم السبعينيات
سيرة ذاتية شجاعة وكبيرة تكتبها الشاعرة والناقدة «فاطمة قنديل».. فى مفتتح الرواية- السيرة.. تكتب فاطمة قنديل عن شخص ما كان يستغل وحدتها فى منزل العائلة بعد أن تفرق الجميع.. يضع أقفاص دجاج فارغة فى الحديقة الملحقة بالمنزل.. تغضب كاتبة السيرة فتأخذ الأقفاص لتضعها فوق السطح.. فى اليوم التالى تجد الأقفاص وقد اختفت، ونعرف أن صاحبها لم يعاود فعلته تلك أبدًا.
تستقى صاحبة السيرة من الواقعة عنوان روايتها «أقفاص فارغة» وكأنها تقول لنا إن حيواتنا أقفاص فارغة إلا من الهواء.. وإلى جانب اللغة التى تنحتها صاحبتها من ذكريات موغلة فى القدم ومشاهد من حياة شخصية وعائلية هناك مبرر آخر للإعجاب بتلك الذكريات.. هذا المبرر هو الشجاعة الفائقة للكاتبة وقدرتها على المكاشفة والسرد العارى، والأهم ذلك الاتساق مع النفس والتصالح مع بعض الخبرات الصادمة فى طفولتها المبكرة وتصنيفها المختلف لما حدث معها أو اعترافها بأنها كانت طرفًا فيه بإرادتها.
على مستوى آخر فالرواية تبدو من حيث لم تقصد وكأنها «معارضة أدبية» لرواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ.. وفيها يسجل الكاتب سيرة أسرة مصرية ضربها الفقر بعد موت عائلها فى منتصف الأربعينيات.. فى رواية محفوظ يكون مصير أفراد الأسرة هو السقوط والانتحار ومصير الأسرة هو الضياع.. فى «أقفاص فارغة» تسجل فاطمة قنديل سيرة حياة أسرة من الطبقة الوسطى المصرية، كان أفرادها على موعد مع الفشل والخذلان على المستوى الشخصى، ومع السقوط الطبقى ومحاولات مقاومته والتحايل عليه بطرق شتى على المستوى الجماعى.. هناك طبعًا سبب عام لمتاعب هذه الأسرة، هو التغيرات العنيفة منذ السبعينيات وأفول زمن حماية الطبقة الوسطى برحيل جمال عبدالناصر.. ولكن هناك أيضًا رصدًا لرحلة أفراد هذه الأسرة مع الفشل وعدم الامتثال لباترون المجتمع التقليدى والأخلاقى، وهو ما يقودهم لمصائر قاسية وصادمة أيضًا باستثناء الكاتبة.. وهى الوحيدة من أفراد هذه الأسرة التى نجت وجلست لتكتب قصتها.. هناك ذلك الأب.. مدرس الرياضيات.. الطالب المتفوق الذى ضحى بحلم دراسة الهندسة إثر إفلاس والده التاجر، وعمل مدرسًا بشهادة متوسطة ليولى إخوته.. هذا الأب لم يتصالح أبدًا مع تضحيته تلك أو مع ما حرمه منه القدر فأدمن الخمر ليجد فيها السلوى عن حلمه الذى فشل فى تحقيقه.. وما ضاعف من مأساته أنه تزوج من قريبة له من أسرة أعلى طبقيًا، فجرها معه أكثر إلى هوة الفقر، وأسهمت هى فى تكريس إحساسه بالعجز والفشل فى تحقيق إنجاز يحفظ لها مستوى حياتها السابق مع أسرتها.. الأم، أيضًا، رغم معاناتها فى رحلة الحياة تبدو نموذجًا للفشل بشكل ما.. فهى تدلل ابنها الأكبر حتى تفسده.. وتتستر على فشله الدراسى لسنوات.. وتقتطع من ميزانية المنزل وتقترض كى تمول تجاربه الفاشلة فى السفر.. ورغم علاقتها الوثيقة بابنتها «الراوية» ومساعدتها لها على دراسة الأدب إلا أنه يشوب أداءها بعض الاستهتار أو بعض التهاون إزاء سلوك ابنتها..
الابن الأكبر الذى يفشل فى الحصول على الثانوية العامة تكرار لفشل الأب، وهو يكرر فشله حين يحصل على فرصة نادرة لدراسة الهندسة فى ألمانيا.. لكنه يختفى ثلاثين عامًا ويعود بخُفى حنين، وينتهى به المطاف فى دار المسنين بعد أن تقطع الراوية علاقتها به وتختتم عقودًا من التضحيات من أجله.. قدمتها والدتها بالأساس وشاركت هى فيها، وكان جزاؤهما معًا هو الجحود والنكران.. أما الأخ الأوسط فى هذه القصة فهو ناجح ولكن بقدر.. يعطى أسرته ولكن بقدر.. مادى ولكن بقدر.. وهو فى رواية صاحبة السيرة أنانى مثل أخيه الأكبر وإن كانت ظروفه مختلفة.. فهو ينجح فى الالتحاق بكلية الطب، لكنه لا يهتم بأن ينهى معاناة والدته وشقيقته ويقرر أن يتزوج وهو ما زال خريجًا حديثًا وأن يقيم معهما وأن يختص زوجته التى يحبها وأسرتها بالجزء الأكبر من دخله.. وحين تستطيع شقيقته أن تتدبر له ثمن عيادة من زوجها الثرى يضن عليها بنصف إيرادات العيادة كما اشترط زوجها.. ثم يبيع العيادة كلها ويسافر بثمنها للسعودية، وهو فى الرواية يتحول لشخص سلفى بعد أن كنا نرى ملامح طالب يسارى سبعينى يسمع الشيخ إمام ويقرأ الأدب مثل كل زملائه فى هذه الفترة.. وهو يهجر الطب ويتحول لتاجر كريمات تجميل وخبير فى تدليك الخصيتين للشيوخ فى البلد الذى هاجر إليه..وهو جاحد بتضحيات والدته إلا قليلًا جدًا على سبيل ذر الرماد فى العيون.. فهو يمتنع عن دفع تكلفة علاجها من السرطان ويقبل أن يتحمل التكلفة ابن خالته الثرى، وهو نذل بالمعنى التقليدى وكأنه «حسنين»، بطل «بداية ونهاية»، غير أن «رمزى»، شقيق الراوية، لا ينتحر ولكن يموت بشكل طبيعى بعد سنوات من مقاطعة أخته له واغترابه عنها واغترابها عنه.. الجانب المشرق فى هذه القصة هو الراوية.. الابنة الصغرى لهذه العائلة المنكوبة.. وهى الأكثر ارتباطًا بوالدتها والوحيدة التى نجت من مصير والدها وشقيقيها.. فالظروف السيئة للأسرة تدفعها لأن تعمل سكرتيرة بالثانوية العامة، وأن تتزوج من صاحب الشركة الثرى مقابل مساعدته ماديًا لأسرتها.. ثم هى تجد ذاتها عندما تقنعها والدتها بالعودة للدراسة عقب فشل تلك الزيجة.. وتجد نفسها فى دراسة الأدب العربى بعد أن نصحها صديق قديم لأخيها بذلك.. ثم تتفوق دراسيًا وتحصل على الدكتوراه وتكتب الشعر والمسرح وتحقق ذاتها معنويًا ثم ماديًا بعد كل هذه المعاناة المادية والخذلان ومرض الأم الصعب والاحتياج المادى لتكلفة العلاج، والعبء النفسى والجسدى لرعاية مريض عزيز لا يستطيع أن يخدم نفسه.. لكن البطلة تجتاز كل هذه الصعاب وزيجتين فاشلتين وانتهاكات مبكرة وكأنها ظلت سنوات عمرها تجرى من وحش أسطورى يطاردها ويتوعدها بالفشل والضياع، كما كان مصير الآلاف من النساء من الطبقة الوسطى فى الثمانينيات والتسعينيات وربما حتى الآن.. حيث يكون مصير الزوجة التنازل عن أحلامها فى التحقق والاختفاء خلف كيلوات الشحوم والبقاء فى المنزل فى انتظار زوج يتحمل نفقات الحياة التى عجزت عن تحملها فى رحلة صعودها المجهضة كواحدة من الطبقة الوسطى.. فرت الكاتبة من هذا المصير وحققت نفسها كمثقفة وشاعرة وناقدة، وبدا مشهد النهاية وكأنها تركب سفينة نوح.. فهى تبيع منزل الأسرة الذى شهد كل هذه الأحداث والتضحيات وتشترى منزلًا جديدًا تبدأ فيه حياتها ولا تعترف بأى حق لأخويها فى المنزل، رغم أن القانون الأعمى يمنحهما هذا الحق.. وهى تؤكد هذا فتقطع علاقتها بأخويها اللذين عاشت معهما كل هذا الخذلان والمعاناة، وكأنها تريد أن تبدأ من جديد تمامًا وكأنها تولد مرة أخرى.. فما أصعبها من حياة وما أفضلها من بداية ونهاية أيضًا.