الوحدة وروابط المصالح الوطنية
من المقرر شرعاً أن ما يوحد المسلمين ويقوى مجتمعهم، ويحافظ على هويتهم الإسلام، والوحدة التى يقيمها الإسلام فوق روابط المصالح المادية، فقال الله عز وجل: «قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».
فى الوقت ذاته لا يحارب الإسلام انتساب الناس إلى أقوامهم وعقائدهم، فاختلاف الناس فى أقوامهم حقيقة واقعة، إلا أن الإسلام مع إقراره حق انتساب الناس من غير أتباعه إلى عقائدهم وهم اليهود والنصارى، أو أتباعه غير العرب إلى أقوامهم كالأكراد.. وغيرهم، إلا أنه يقود هذا التعدد إلى التعارف والتآلف، والتراحم والتعاطف، والتعاون والتواصل، حيث قال الله – عز وجل: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».
وأساس المفاضلة بين الناس هو فى مدى قيامهم بالحقوق والواجبات مع غيرهم، فى إطار الالتزام والاحتكام إلى الدين الحق، وبهذا، فالقومية إذا قصد بها الانتماء والانتساب لقوم معينين، تجمع بينهم روابط اللغة والوطن والمصالح، فهى مشروعة شرعاً، أما إذا تحولت لما يناهض الهوية الإسلامية أو بدلاً عن أحكام الشرع المطهر والوحى المعصوم المنزل، أو كانت عصبية تقود إلى الاستعلاء أو الاستعداء أو التمايز، فتكون مرفوضة شكلاً وموضوعاً، قال رسول الله: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية».
والمجتمع المسلم بمقومات ومكونات بنائه من البناء العقائدى والتشريعى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى والعسكرى، والمحلى، بما هو مستنبط من نصوص الشريعة وقواعدها، ومما هو مفصل فى مصنفات «السياسة الشرعية» فى الفقه التراثى الموروث والمعاصر، وبما فيه من خصائص فكرية وعقائدية، وإن كانت متعددة القوميات والأجناس إلا أنها موحدة العقيدة والسلوك والثقافة التى سجل التاريخ اعتزاز المسلم العربى والفارسى والهندى والرومى والإفريقى وغيرهم بدينهم ومجتمعهم وقومياتهم معاً، لأن المجتمع المسلم مجتمع مفتوح يعيش فيه غير المسلمين فى ضمانات الإسلام من حرية العقيدة والشعائر وتنظيم أحوالهم الشخصية وفق عقائدهم، ويضمن لرعاياه ظروف العيش الكريم بكل لوازمه، ولا يشغب على ذلك الفهم القاصر أو الخاطئ للجزية فهى ليست ضريبة استذلال، بل ضريبة مواطنة تفرض على أهل الذمة مقابل فرض الزكاة على المسلمين، وكلاهما من الموارد المالية باعتبار أن الزكاة عبادة جماعية تنظمها الدولة من تعيين جباة وسعاة للتحصيل والصرف معاً «صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم».
وعلى ضوء ما سلف فإن المواطنة بمعناها الصحيح لا المزيف لا يرفضها الإسلام ما دامت تعنى حسن وصدق الانتماء للوطن، ولد به أم لم يولد، الوفاء بالحقوق والواجبات بما فيه المصلحة المحققة لا الموهوبة، الاعتزاز بالموروث الدينى، والهوية والصبغة الثقافية، المستمدة مما تدين به الكثرة الكاثرة.
أما إذا أريد بالمواطنة، محو الهوية، وتنحية الدين – أو ما بقى منه لأن جل ما بقى أمور فردية «العقيدة» وشعائر عبادية وأحوال شخصية «فقه الأسرة والمواريث – أما ما عداه من معاملات مالية ونظام قضاء، وتشريع جنائى فلا وجود له إلا فى بطون المصنفات الفقهية، وقاعات دروس المؤسسات التعليمية المتخصصة فى علوم الدين، وإذا أريد بها كذلك التذرع بها أو التعلل، لإرضاء الغير، للانسلاخ عن الدين، أو الحيلولة لعدم إقامة ما يدور فى خيالات البعض من الدولة الدينية المثارة من جماعة منسوبة إلى الدين شعاراً، وهى فى واقع أمرها عمل سياسى بحت، لا يؤهلها للإنابة عن المسلمين ولا التحدث باسمه، ولا يمكنها فى بلادنا ولا غيرها من الوصول إلى سدة الحكم، المواطنة بهذا خداع وكلمة حق يراد بها باطل!
■ أستاذ الشريعة الإسلامية ـ جامعة الأزهر