الذراع الاستخباراتية للمشروع التركى

فى الأسبوع الأول من هذا الشهر، أعلنت وكالة التعاون والتنسيق التركية «تيكا» عن تقديم مساعدات طبية لذوى الاحتياجات الخاصة فى مدينة «الزنتان» الليبية، التى تقع فى الشمال الغربى وتبعد ١٧٠ كلم جنوب غرب طرابلس العاصمة.
على إثر هذا الإعلان، جرى تنظيم حفل كبير فى مديرية الخدمات الاجتماعية بمقر بلدية المدينة، حضره رئيس بلدية الزنتان السيد مصطفى البارونى ليكون فى مقدمة المرحبين بضيف الشرف لهذا الاحتفال المدعو «غياث الدين كاراتيبى» منسق عمل الوكالة فى ليبيا، الذى قدم بدوره «١٥٠ كرسيًا متحركًا» وبعض المعدات «الرمزية» عدديًا وفنيًا، فى الوقت الذى جرى حشد كبراء المدينة ووجهائها لضيافة المندوب التركى، والوقوف جواره أثناء مراسم بدت أشد التباسًا حينما رصت صفوف المئات من المصابين وذوى الاحتياج، أمام هذا الـ«كاراتيبى» الذى كان مشغولًا أكثر بطبيعة عمله الحقيقى فى ليبيا.
فى يناير من العام ١٩٩٢، تم الإعلان عن تأسيس وكالة التنسيق والتعاون التركية المعروفة باسم «تيكا» كمنظمة خيرية، بموجب قرار وزارى صدر بشأنها حينئذ للعمل فى مجالات «التنمية، والاقتصاد، والتعليم، والإعلام والثقافة»، وفق القرار الوزارى عبر «التعاون والتقارب مع الشعوب والمجتمعات».
تلك الصياغة حينها بدت ملائمة لأجواء التسعينيات رغم ما شابها من أجواء للتواصل الرمادى والجسور الناعمة، التى لم يكن أحد يعيرها التفاتًا فى هذا التوقيت المبكر، فالعناوين الإنسانية الأقرب للملمس «الإسفنجى» يسهل تمريرها والقبول بها، إلى أن ينكشف ما يسير فى اتجاهات معاكسة.
وهو ما لبث أن تكشف سريعًا بمجرد وصول حزب «العدالة والتنمية» للحكم فى ٢٠٠٣، ليتبين أنه قام بتأسيس تلك المنظمة الخيرية وتمكن من استصدار قرار وزارى بشأنها، من أجل توظيفها كقوة اختراق متقدمة للمشروع العثمانى الجديد، الذى كان يتهيأ بالداخل التركى للانطلاق. وقدر القائمون على المشروع أنه يحتاج إلى وجه مدنى خيرى، يمكن من خلاله رسم «خريطة التموضع» التى لم تكن قد نضجت على صورتها النهائية بعد، لعبت وكالة «تيكا» هذا الدور الاستكشافى فى البلدان الإسلامية بالأخص، على محورين لم يتغيرا كثيرًا بعد اكتمال المخطط بوصول أردوغان للسلطة لاحقًا.
المحور الأول الذى تحركت فيه «تيكا» شمل غالبية دول آسيا الوسطى والقوقاز الروسى، على خلفية الارتباط العرقى الذى بدأت الوكالة فى رسم آليات تعزيزه عبر العديد من استدعاءات التراث العثمانى، وربط الخدمات والمساعدات بخلق تكتلات داعمة لهذا الإحياء غير البرىء. المحور الثانى لتحرك الوكالة التركية تمثل فى أهمية اختراق دول الشرق الأوسط والشمال الإفريقى، ومن ورائها الدول ذات الارتباط التى يمكن أن تمثل «دائرة حيوية» ستكون مستقبلًا على درجة أكبر من الأهمية، ربما تفوق المحور الأول على تاريخية وعراقة ارتباطه بالمشروع التركى.
الأمر المرتب وغير المفاجئ فى تحويل وكالة «تيكا» إلى ذراع استخباراتية رئيسية، فى منظومة حكم حزب «العدالة والتنمية» للدولة التركية، كان تعيين «هاكان فيدان» الذى يشغل الآن منصب مدير الاستخبارات التركية ليكون رئيسًا للوكالة اعتبارًا من العام ٢٠٠٣، وهو العام نفسه الذى لم ينصرم قبل أن يقوم فيدان بتحويل توجهات وجهد «تيكا» الرئيسى، إلى العمل الاستخباراتى عبر زرع العملاء واستمالة الكيانات الموالية لتركيا، وإنشاء «الارتكازات» التى ستمثل منصات نفاذ مستقبلية داخل نسيج الدول المستهدفة.
نجح فيدان فى السنوات التى امتدت إلى ٢٠٠٧، فى جمع قدر هائل من المعلومات والخرائط التى بثها داخل أروقة حزبه الحاكم، ومثلت فيما بعد أجندة عمل اعتمدها المشروع العثمانى الجديد كأجندة عمل، وفق الجدول الزمنى الذى قدمه ونصح به «هاكان فيدان» على ضوء ما تكشف له من وجوده داخل تلك البلدان والأراضى.
أبرز ملامح التحولات الاستخباراتية التى نفذها فيدان على خطوط سير الوكالة، أنه تمكن من النفاذ داخل «دول البلقان» التى اعتبرها ذات أولوية، كى تمثل للمشروع التركى بوابة خلفية نموذجية للنشاط الاستخباراتى داخل الساحة الأوروبية.
كما حمل للشمال الإفريقى ذات الأهمية القصوى، باعتباره يمثل ميزة مزدوجة تمكن الدولة التركية من النفاذ داخل مكون كبير ورئيسى للجسد العربى، فضلًا عن ارتباطه الكبير بالفضاء الإفريقى الواسع الذى يبدأ من جنوب تلك الدول، وصولًا بخطوطه المتشعبة إلى كل أرجاء القارة الواعدة، التى تمثل للمشروع العثمانى فرصًا لا حصر لها.
ومن خلال مؤسسات متنوعة تعليمية ودينية وصحية وأعمال إغاثة ومنح المساعدات، وغيرها من أشكال التمويه المقبولة داخل أراضى الدول بصورة أو بأخرى، تمكنت وكالة «تيكا» من زرع عدد ضخم من العناصر الاستخباراتية تحت غطاء مدنى محكم.
حينها لم يكن بالمصادفة أن المسئول الأول عن هذه المنظمة الخيرية، يشغل فى نفس الفترة منصب «مستشار» لأحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركى حينئذ، عندما كانت الذراع السياسية والإعلامية للمشروع تنسج الستار الآخر، المتمثل فى تكوين الوجه التركى الطيب من خلال نظرية «صفر مشاكل»، التى تحرك النشاط الاستخباراتى الهائل تحت ظلالها وفق تدرج الخطوات التى رسمها فيدان بمباركة رجب أردوغان، حيث ثمّن الأخير هذا الجهد الاستثنائى فى صناعة وتثبيت الشبكة العملاقة على الأرض، لينقل صاحبها مباشرة فى العام ٢٠٠٧ إلى منصب مدير الاستخبارات التركية، الذى يشغله حتى الآن محتفظًا بثقة مطلقة من «قائد» المشروع، وبالفعل ينظر إليه باعتباره الكاتم الأول والوحيد لأسرار أردوغان، الذى خاض معه عبر تلك السنوات المفصلية كل التقلبات التى جرت فى أنحاء العالم.
ليست هناك دلالة على أهمية وكالة «تيكا» بالنسبة للدولة التركية، أوضح من تصعيد رئيسها مباشرة إلى منصب مدير جهاز الاستخبارات، كما بدا أن هذا الجهاز هو الذى يقود ويمهد الأرض أمام مشروع العثمانية، فى مناطق العالم المختلفة وفق سيناريوهات تتنوع حسب معطيات كل منطقة.
بعض هذه الأدوار والمهام كان حاضرًا أثناء سنوات الربيع العربى الاستثنائية، وما استلزمها من فتح خطوط وجبهات عريضة مع التنظيمات والميليشيات الإرهابية المسلحة، فضلًا عن العلاقات البينية مع الدول الكبرى ذات التأثير وغيرها من العواصم المحورية فى دوائر الارتباط.
لم تخذل الاستخبارات التركية أردوغان فى أى من مهام الداخل والخارج التى استلزم العمل عليها، سواء القذرة منها أو الدبلوماسية أو حتى عبر نسج الشركات متعددة الأطراف، فى الوقت الذى لم تكن بعيدة عن أحداث القمع الداخلى الذى مثل فيه «هاكان فيدان» دورًا رئيسيًا، منذ الانقلاب الفاشل ٢٠١٦ وحتى تنظيف الساحة بكاملها أمام قبضة رجب أردوغان الكاملة، على مجمل الفضاء التركى الداخلى.
لذلك ينظر أردوغان إلى فيدان ليس باعتباره شريكًا أول بالمشروع العثمانى فحسب، بل كونه فعليًا- وفق التجربة- يملك مفاتيح «الكنز الاستخباراتى» الذى صنعه وأنفقت عليه الدولة التركية لعقود، ويعد هذا الأخير القوة الدافعة للمشروع وذراعه الطولى الذى يحمل ملامح الألف وجه.