عندما لا نضع الجرس فى رقبة القط
يشير العنوان بالطبع إلى القصة المعروفة والخاصة باجتماع عدد من الفئران التى تعيش فى أحد البيوت الكبيرة، حيث تتمتع بسعة العيش وحرية الحركة، لكن ما كان يقلقها حقًا هو وجود ذلك القط الذى كان يمتلك مخالب وأسنانًا حادة تسمح له بإرعابها وإفساد حياتها.
ولإرساء نوع من السلام والطمأنينة فى حياتها، كان يجب على هذه الفئران تحييد ذلك الخطر الذى يمثله القط، وبعد عدة اجتماعات عقدتها ومناقشات أجرتها حول هذا التحدى، اهتدت أخيرًا إلى فكرة «جهنمية»، وخلاصتها أن تضع جرسًا حول رقبة القط، الأمر الذى يتيح لها فى هذه الحالة سماع القط والتفطن له حال قيامه بأى حركة للاقتراب بغية الانقضاض على أحدها، وذلك حتى لا يفترسها العدوُّ واحدًا بعد الآخر. كانت فكرة الجرس هذه بالفعل فكرة عبقرية كفيلة بإنذار الفئران وتنبيهها قبل أن يقترب القط ليحيق بها. لكن هذا الحل «العبقرى» واجه مشكلة عويصة: من يستطيع فعلًا وضع الجرس حول رقبة القط! مغزى هذه القصة هو بالطبع كيفية وجود حلول عملية فى مواجهة من يتحكمون فى المصائر.
لماذا تغيرنا..؟ ماذا حدث لنا على وجه التحديد؟.. سؤال يردده جميعنا إلى جميعنا.. أين الرضا والقناعة والسكون والهدوء والتواد والرحمة والتصالح مع الذات ومع الآخر؟.. أين الحب والتواصل والتعاون والإيثار؟ لقد أصبحت كلها حالات وسمات إنسانية كدنا نتفق جميعًا على أنها باتت ملامح زمن فات.. لقد تحولت بنية المجتمع إلى كيان تُشكل فيه السخرية دعامة بنيته الأساسية.. وصار النقد يُمارس باحتراف على طريقتنا حتى من جانب هؤلاء ممن قبعوا تحت نار دائرة الأمية التعليمية والثقافية والمعرفية والمعلوماتية.
عندما دلفت من باب بيتك مهرولًا للتقدم لفرصة عمل جديدة.. اخترقت قدمك كيسًا لمخلفات جارك وقد انفجرت محتوياته على أرض الشارع إثر قذفها من دور علوى.. وعندما انبطحت زلقًا بسترتك وسروالك بلونيهما السماوى، اكتشفت أنهما قد اكتسيا بكل ألوان وملامح شارعك السوداوية، وعليه صرخت فى خطابية عنترية لاعنة.. أين أجهزة البيئة والمحافظة والشرطة..؟ وعندما هدأت متجاوزًا كل أبعاد المحنة والأزمة تذكرت الموعد المحدد لك الذى يجب أن تلحق به مهما كان الحال التى صرت عليها.. فقررت الإشارة إلى تاكسى بعظمة مَن نهضَ من عثرته بكل وقار خجول لتُقله ضمانًا لسرعة الوصول والحفاظ على ما تبقى من معالم هندامك وهيئتك.. وعندما خرج بك التاكسى من شارعك الفرعى إلى الشارع الرئيسى رأيت كمًّا هائلًا من السيارات المنزرعة فى أماكنها فى صبر وتجلد.. ولما تفتق ذهن السائق الهمام فى الهروب من شارع جانبى آخر.. تهللت أساريرك وهو يجتاز بأداء بهلوانى من شارع إلى حارة وأخرى مرتادًا مناطق لا يمكنك أن تتخيل أن تكون فى العاصمة، ولكن يا فرحة ما تمت فأنت وسائقك وعشرات من العربات أمامك وخلفك قد توقفتم جميعًا فى حالة انسحاق وسكون الموت.. فلا شوارع جانبية يمكن الفكاك عن طريقها، ولا سبيل إلى العودة.. فهرولت بين السيارات لتعرف ما حدث.. فإذا بك تكتشف أن المعلم الكبير وعين أعيان هذا التجمع السكنى الغريب قد وافته المنية فجر اليوم، فأقاموا له سرادقًا قد أغلق المنفذ الوحيد للخروج من ذلك الحى.. فهرولت مرة أخرى ذات اليمين وذات اليسار صارخًا ناقمًا كالمجنون.. فإذا بأشاوسة الشارع يحملونك ويقذفون بك على أسفلت الشارع العمومى بعدما خدشت حُرمة أحزانهم بعويلك غير المفهوم وأسئلتك غير ذات المعنى حول أين أجهزة الحى وعساكر القسم... مَن صرح لهم؟.. هل لم يرهم مسئول؟!... إلخ.
لملمت أوراقك ومسوغات تعيينك التى تبعثرت متطايرة على جنبات الطريق لتنهض من جديد.. ولما نظرت حولك وجدت إخوة كثيرين قد قذفت بهم شوارع أخرى جانبية وقد أنهكهم الصراخ بأسئلة أخرى أين أجهزة الصحة؟.. أين الإعلام؟.. أين رجال التعليم؟.. الحكومة فين؟ وعندما أمعنت النظر فى معالمهم اكتشفت أنك تعرفهم.. إنهم حسانين أفندى موظف الأحوال المدنية نجم صفحة الحوادث.. والآخر هو الدكتور فلان مسئول مستشفى الفواجع.. والثالث هو فلان المهندس المسئول بهيئة النقل والكوارث.. كلهم كان لك معهم مواقف وصفتها فى حينها بأنها مآسٍ.. ولما هدأ روعك حاولت أن تجيب عن أسئلة هؤلاء ممن انبطحوا بجوارك والتى يبحثون فيها عن أجهزة حكومتهم، ويستغيثون بنائب البرلمان، وعما أسموه هيبة الحكومة وغيبة رموزها، فإذا بك تراهم فى موقعى الضحية والجلاد فى آن واحد.
هى إذن فقط ظروف نتبادل فيها الأدوار فى أزمنة وأمكنة مختلفة.. ولكننا اكتفينا بالصراخ والنقد والعويل.. وأرى أن ذلك قد تولد لدينا بفعل سلوكيات تشكلت كرد فعل من تطبيق مفاهيم أكدتها نظم سابقة احتوتنا عبر العقود الأخيرة، مفادها أن الحكومة هى الملاذ والدواء والحماية والأمان على كاهلها تقع المسئولية.. والحكومة بدورها قد استنفدتها محاولات التحمل والتجمل لدرء مخاطر أقلام الهواة فى بريد الصحف وبرامج التحقيقات الإذاعية والتليفزيونية ودراسات المتخصصين وصرخات نواب الشعب.. فصارت أجهزتها تقوم بتشكيل لجان وإنشاء هيئات وتخصيص وزارات وتعيين قيادات جديدة.. لعل فى ذلك الحل.. وإن لم يكن كذلك فقد حقق على الأقل لونًا من ألوان تهدئة الخواطر.. والخواطر ليس لها من سبيل للهدوء إلا أن نعمل وندعم ونساند من قد تعثر أو تخلف منا.. وبدلًا من اللوم وإلقاء التهم بحثًا عن المجرم بعد ثقبه جدار المركب الذى يحملنا جميعًا، علينا أن نحشد كل قوانا لسدها حتى لا يغرق بنا.. فلم يعد هناك مجال لأن نقول ملك ولاَّ كتابة.. أقصد حكومة ولاَّ شعب؟.. برلمان ولا ناس ؟، وصدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما قال «إذا أراد الله بقوم سوءًا، سلط عليهم الجدل، ومنعهم العمل».