جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

هل كتب أمل دنقل «لا تصالح» ضد زيارة السادات للقدس؟

جريدة الدستور

كيف عاش شاعر بحجم أمل دنقل؟.. سؤال يلح على من يقرأ ميراث الشاعر الذى رحل عن عالمنا قبل ٣٦ عامًا، تاركًا الكثير من القصائد الفارقة فى مسيرة الشعر، والمواقف المؤثرة فى تاريخ الأمة، ما دفع الأجيال المتعاقبة لأن تطلق عليه «شاعر الرفض»، صاحب الرؤية الاستشرافية والنبرة الواضحة.
فى السطور التالية، تستعيد «الدستور» لمحات من حياة الشاعر الكبير، يرويها شقيقه أنس دنقل، الذى يعود بنا إلى قرية قفط بمحافظة قنا، حيث لم يكمل الصبى ١٠ أعوام ليصبح يتيمًا مسئولًا عن أسرته الصغيرة بعد رحيل الوالد، مرتديًا عباءته ومتسلحًا بما أورثه من ذخيرة معرفية وأدبية فى مواجهة العالم، لنقف على أهم المحطات التى شكلت وعى الشاعر ومواقفه الأدبية والسياسية.

خطب الجمعة وانتمى للصوفية وبدأ ممثلًا على مسارح قنا

عاش أمل دنقل العديد من التحولات التى غيرت مجرى حياته، أولها وفاة الأب فى سن مبكرة حين كان فى العاشرة من عمره، ليواجه مرارة اليتم ومسئولية إخوته الصغار، ما دفعه إلى أن يتمثل فى صورة الأب الأزهرى الجليل فى البيت وخارجه، محافظًا على الصلوات الخمس، منتميًا إلى الطريقة الصوفية البرهامية، يخطب الجمعة فى مسجد القرية، ويعكف على قراءة ما أورثه الوالد من كتب فقهية وتاريخية ودواوين لفحول الشعراء.
كانت تركة الأب ينبوعًا لإبداع الشاعر، الذى ورث عن والده شغف القراءة والكتابة والشعر، وهكذا انكبّ الشاعر الصغير على قراءة دواوين الشعراء القدامى وتعلم الأوزان الخليلية، ونظم القصائد الكلاسيكية فى سن مبكرة، وما زالت بعض مسوداتها فى بيتنا القديم بين طيات الكراريس المدرسية لأمل.
حين انتقل «أمل» إلى المدرسة الثانوية بمدينة قنا، فى بداية الخمسينيات، كانت المحافظة تعتبر منفى للموظفين والمدرسين المغضوب عليهم من النظام الجديد آنذاك، خاصة بعد أحداث مارس ١٩٥٤ واعتلاء جمال عبدالناصر كرسى الحكم، لكن قنا لم تتحول لمنفى، بل أصبحت حاضنة لحركة ثقافية سوف تسفر بعدها عن جيل من الشعراء والأدباء الذين سيحدثون أثرًا كبيرًا فى مسيرة الأدب العربى فيما بعد ومن بينهم «أمل».
مع استمرار نفى المدرسين المثقفين المغضوب عليهم من قبل نظام يوليو إلى مدارس قنا، حفلت المحافظة فى ذلك الوقت بكوكبة من المثقفين المغتربين، أتذكر كان من بينهم توفيق حنا مدرس اللغة الفرنسية اليسارى، أول من احتضن موهبة الشاعر عبدالرحمن الأبنودى وشجعه، والذى عاش مغتربًا فى أمريكا، وشاعر آخر اسمه «سعفان» تبنى موهبة «أمل» وراهن عليه، وغيرهما كثيرون ممن شكلوا حركة ثقافية واسعة فى قنا، تمثلت فيما كان يسمى «الجامعة الشعبية.. ملتقى المثقفين» التى بدأ «أمل» نشاطه فيها كممثل فى مسرحياتها.
ورغم ما وجده الشاعر من احتفاء ومساندة من أساتذة قنا المغتربين، فإن اليتم بمعناه المادى ظل منعكسًا على توجهات «أمل» الثقافية والسياسية، وربما كان سببًا فى عدم انتمائه إلى أى تنظيم سياسى، بعكس صديقى الصبا القاص يحيى الطاهر عبدالله، والشاعر عبدالرحمن الأبنودى، اللذين انخرطا فى التنظيمات اليسارية التى لم يؤمن بها «أمل»، بل كان يعتقد أن الأنظمة الماركسية مجرد خدعة لصناعة مجتمع ديكتاتورى يسحق الإنسان بحجة العدل.. العدل الذى يستحيل أن يتحقق فى غياب الحرية.
وعندما ذهب شقيقى لأول مرة إلى القاهرة، فى نهاية خمسينيات القرن الماضى، حمل معه صورتين اقتطعهما من مجلة الإذاعة المصرية، لشاعرين ممن تتلمذ على قصائدهما، واحدة منها للشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل. والأخرى لشاعر آخر من الجيل نفسه، لكنه سقط فى نظر الشاعر الشاب، حينما ذهب لمقابلته فوجده أمام إحدى المؤسسات الثقافية منتصبًا واضعًا يديه أمامه فى أدب مصطنع، منتظرًا تشريف أحد «جنرالات الثقافة»، ليكون خلفه فى شرف افتتاح أحد المشروعات الثقافية وقص الشريط، فمزق «أمل» صورته وانصرف.

رفض عرضًا من القذافى ليعمل ويحصل على سكن مفروش مؤثث


امتلك أمل دنقل قدرة واسعة وخلاقة على قراءة الواقع المعيش بكل قساوته، تلك القدرة التى مكنته من استشراف المستقبل وتوقعه، وأتذكر أن معظم قصائد ديوانه «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» مكتوب قبل نكسة يونيو ١٩٦٧، ومنها قصيدة «الأرض والجرح الذى لا ينفتح» التى يقول فيها «أحببت فيك المجد والشعراء لكن الذى سرواله من عنكبوت الوهم يمشى فى مدائنك المليئة بالذباب يسقى القلوب عصارة الخدر المنمق والطواويس التى نزعت تقاويم الحوائط أوقفت ساعاتها وتجشأت بموائد السفراء تنتظر النياشين التى يسخو بها السلطان فوق أكابر الأغوات منهم».. إلى آخر القصيدة المكتوبة فى مايو ١٩٦٦ التى ينهيها بـ«لم يبق من شىء يقال يا أرض هل يلد الرجال؟»، وكذلك قصيدة «كلمات سبارتكوس الأخيرة» من الديوان نفسه، وكتبت عام ١٩٦٢، عندما كان أمل ابن ٢٢ عامًا، ولا تزال تتحدى الزمن حتى الآن.
وتجلت بصيرة «أمل» القوية فى قصيدته «لا تصالح» التى كتبت عقب محادثات فض الاشتباك الأول إبان حرب أكتوبر المجيدة «٢٨ أكتوبر ١٩٧٣»، حين كانت الحرب على أشدها، والمصريون يشعرون مرة أخرى بالنصر والقوة ويحاولون مؤازرة جنودهم على الجبهة، الجميع يتابع المشهد، لكن «أمل» هو من رأى من زاوية أخرى، خاصة عندما سمع بدموع المشير الجمسى فى محادثات الكيلو ١٠١ فى طريق السويس.
فى تلك الأوقات استشعر «أمل» خوفًا من مصالحة محتملة، مصالحة تخالف ما اعتقده بالصهيونية التى لا عهد لها ولا ميثاق، فكتب قصيدته الخالدة التى نشرت بجريدة المساء القاهرية تحت عنوان «الوصايا العشر»، قبل زيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى القدس، لكنها لم تلفت الانتباه إلا عقب الزيارة لتتلقفها غالبية الصحف العربية.
ورغم التضييق والتجويع وحظر النشر داخل مصر، رفض أمل دنقل السفر خارج مصر مطلقًا، وعندما تلقى عرضًا من العقيد معمر القدافى ليعمل ويحصل على سكن مفروش مؤثث بحى سيخصص للشعراء والأدباء، رفضها وانعكس ذلك فى قصيدته «مقابلة خاصة مع ابن نوح» حيث قال: «لا للسفينة.. وأحب الوطن».
وأتذكر أنه لم يغادر مصر سوى مرة واحدة للاحتفال بالثورة الفلسطينية فى دمشق، مطلع الثمانينيات، إذ تمت دعوته لأمسية شعرية مع الشاعر محمود درويش بدمشق، وعقب الأمسية سأله صحفى مصرى مقيم بسوريا عن رأيه فيما يكتبه الصحفيون الموالون للنظام بالصحف المصرية؟، فأجابه «أمل» إن صحفيى النظام بالداخل لا يختلفون عن صحفيى المعارضة بالخارج، والفرق الوحيد أن هذا يقبض باليمين وذلك يقبض باليسار. والنتيجة أن طلبت السلطات السورية من أمل دنقل مغادرة دمشق على متن أول طائرة متجهة إلى القاهرة.