جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

هل نعانى من «أنيميا النقد»؟


لا ريب أن أزمنة ازدهار الفنون والآداب وكل صنوف وأشكال الإبداع كان لا بد يصاحبها ويسهم فى تطورها حركات نقدية رائعة تدفع بأصحاب المواهب والملكات الإبداعية للتقدم فى بداية مشوارهم، وتُعين المتلقى على قراءة إبداعات الكبار، ثم تناول الأعمال الأقل قدرًا وكشف أنصاف المواهب والقدرات، وعديمى الموهبة وأدعياء الوسط الثقافى والفنى من المُقلدين والمُزيفين، ولا يملكون أى مشروع إبداعى أو ثقافى.
على سبيل المثال، ترصد لنا مجلة «الرسالة» فى مطلع الثلاثينيات دور النقد الأدبى المتميز فى تقديم الكاتب الكبير توفيق الحكيم.. يقول محررها: «لقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجم ساطع، وأصبحت له شهرة واسعة بعد أن أصدر مسرحيته الأولى (أهل الكهف) والفضل فى ذلك يعود إلى طه حسين وإلى نفوذه الأدبى لدى جماهير المثقفين، فعندما كتب طه حسين عن توفيق الحكيم بحماس شديد، أصبح توفيق الحكيم نجمًا، وأصبح واحدًا من كتّاب الصف الأول فى الأدب العربى المعاصر منذ بدايته، ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم هو نموذج حى على تأثير (الناقد) فى الحياة الأدبية وأذواق الناس، فعندما يكون الناقد صاحب كلمة مسموعة وموثوق بها، فإنه يستطيع أن يبنى ويهدم، ويستطيع أن يخلق نجومًا ويطفئ نجومًا أخرى. وقد كان طه حسين عند أول ظهور لتوفيق الحكيم سنة ١٩٣٣، هو هذا الناقد القوى، صاحب التأثير الواسع على الناس، وصاحب الكلمة المسموعة بينهم، ولعل هذه الحادثة الأدبية التاريخية تلفت النظر إلى أهمية (النقد) القوى المؤثر فى حياتنا الأدبية، وفى حياة أى أدب آخر من آداب العالم، ودون (الناقد) القوى الواعى الشجاع فإن الحياة الأدبية تفقد القيادة السليمة وتضيع منها أية رؤية واضحة..». ويرصد لنا الكاتب الرائع «عباس خضر» ما جرى فى زمانه عبر ندوة ثقافية نقدية شارك فيها حول عمل أدبى، وكيف دار الحوار بين مجموعة رائعة من الكتّاب والنقاد، وذلك فى عدد ٥ فبراير ١٩٥١ ضمن برامج «الجامعة الشعبية».. أستأذن قارئ جريدتنا الرائعة «القاهرة» لعرض جوانب منها..
يقول «عباس خضر»: جرت الجامعة الشعبية على أن تنظم مناقشات أدبية تدور حول كتاب يُختار للعرض والمناقشة. وقد كان كتاب الندوة الأخيرة هو قصة (على باب زويلة) للأستاذ «محمد سعيد العريان»، قام بعرضه ونقده الأستاذ «زكريا الحجاوى»، وقد بدأ حديثه بمقدمة حمل فيها على الأدباء الكبار الذين تعرضوا لكتابة القصة الطويلة من حيث محاكاتهم وأخذهم من قصص الغرب، حتى شبههم بالغراب الذى يحجل فى جنة الكروان.. ومن حيث استئثارهم باهتمام النقاد وعنايتهم، ذاهبًا إلى أن قصة «على باب زويلة» ليست كذلك ولم يظفر صاحبها بما يستحق من إشادة النقاد لأنه ليس من المشهورين اللامعين، وذاهبًا أيضًا إلى أن ذلك يدل على أن النقد عندنا مصاب بـ«الأنيميا» على حسب تعبيره، وكان الأستاذ الحجاوى مُغاليًا فى ذلك ولكن لنغض عن هذه الحالة محتفظين بعبارة «أنيميا النقد» فقد لاحظت بعض أعراضها فى كلامه على كتابنا هذا المعروض للنقد والمناقشة. يظهر أن كلمة «النقد» ليست فى حساب هذه الندوات، ولذلك نراها تعبر فى الإعلان عن الندوة بكلمتى «عرض» و«مناقشة» وإن كانت المناقشة يدخل فيها النقد، ولكن الإدارة المشرفة لا تميل إلى أن يدخل فيها ما قد يغضب حضرات المؤلفين الذين تؤثرهم باختبار مؤلفاتهم. ولو أن الأستاذ الحجاوى التزم هذا الوضع واكتفى بعرض الكتاب دون الاتجاه إلى نقده، لسلم من أعراض الأنيميا النقدية، ولكنه أديب مثقف حصيف، وكاتب قصصى ملحوظ، فلا بد أن يحمله شيطانه على النظر فيما يعرض له ليقدره ويقومه. ولكنه مع ذلك رضى أن يتعرض لتلك الأنيميا لأنه كان يشرف على النقد ثم يمسك عنه، ويمضى فى شىء من التقريظ يغطى على سوء الوقع لدى الجمهور غير المستعد نفسيًا لسماع النقد، ولست أدرى مدى ما بينه وبين المؤلف من علاقة. وأشاد الأستاذ الحجاوى بعمل المؤلف فى هذه القصة من حيث إنها جلت حقائق تاريخية فى الحقبة التى مرت بها حوادثها خاصة ما بذله المؤلف من جهد لكشف الغموض فى أحداث عصر المماليك الذى وقعت فيه القصة والذى لم ينل عناية المؤرخين ومن حيث اختباره موضوعًا مصريًا يظهر فيه خط الاتجاه الذى لا بد منه فى كل عمل قصصى قيم، ويبدو هذا الخط فى العناية بالناحية المصرية القومية فى عرض بعض المواقف، وقال إنه يعتبر هذا الاتجاه ريحانة يضعها على مفرق الأستاذ العريان. وكان الأستاذ نجيب محفوظ قد أخذ على القصة أنها مزدحمة الحوادث وطويلة السنين وأنه يمكن أن تستغل بعض مواقفها وفتراتها فى عمل تكون عناصر الفن فيه أكمل. رد الحجاوى على ذلك بأن الفترة التى تقع فيها حوادث الرواية تكاد تكون مجهولة التاريخ فكان عمل المؤلف مُجليًا لها. ولكنى أرى هذا دفاعًا تاريخيًا لا فنيًا، أى أن المقصود به مصلحة التاريخ ومعناه أن القصة ضرورة تاريخية مؤقتة حتى يهتم المؤرخون بهذا العصر ويوله ما يستحق من عناية. ولم أفهم ما يعنيه الأستاذ الحجاوى بما قاله من أن القصة ليست قصة أدبية ولا قصة تاريخية وإنما هى ملحمة، هل خرجت الملحمة عن أنها قصة أدبية أو تاريخية؟. أكتفى بذلك القدر من الحوار النقدى، والذى أشير إليه كمثال لتفاعل موضوعى مع طرح أدبى لتقديم عمل جديد.. ويبقى السؤال: هل بتنا نعانى من «أنيميا النقد»؟!.