جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

صلاح.. «التارديجرادا».. والأطرش!


المثابر انتصر، ومرة جديدة، ولن تكون الأخيرة، يؤكد محمد صلاح أن إرادة المصريين تكفي وزيادة لإجبار القدر على الاستجابة. وعليه، كان طبيعًيا أن يفرح المصريون، وأن يفخروا ويتفاخروا بحصوله على جائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي الممتاز لهذا الموسم. وكان طبيعيًا، أيضًا، ومتوقعًا أن يغتاظ أعداء الله وأعداؤهم، وآخرون، من دونهم، لا يعلمونهم، الله يعلمهم، بينهم أغبياء اعتقدوا أنهم قادرون على تكدير حياة المصريين، أو «التنكيد» عليهم، وقتل روح الأمل لديهم.

ومضة أضاءت ليل المصريين ففرحوا بها، ولم يلتفتوا إلى تلك الكائنات المعزولة داخل رؤاها السوداء وأوهامها المرتبكة، التي لم تدرك بعد أن جوهر السياسة أو معنى العمل السياسي، هو التفاعل مع الشعب والالتفات إلى مصادر حزنه أو سعادته. كما لم يلتفت المصريون، أيضًا، إلى «هلاوس» ذلك «الأطرش»، الذي كان يرأس، بكل أسف، لجنة الفتوى بالأزهر «الشريف، الذي أوهمه شيطانه أن كرة القدم مجرد لعبة تافهة، وجعله يسأل بسخرية «وحايجيلنا إيه من كأس العالم؟». والأكثر من ذلك، هو أن الشعب، الجبار بطبعه، نجح في التنكيد على خنزير الطحلب أو دب الماء أو الكائن المجهري المعروف باسم «التارديجرادا»، الذي يُعدّ من أكثر المخلوقات تحملًا و«تناحة» على وجه الأرض!.

المثابر انتصر بعد سنوات قليلة، انتقل أو قفز خلالها من فريق اتحاد بسيون إلى نادي عثماثون طنطا إلى المقاولون العرب ثم إلى أقوى الفرق الأوروبية. وارتفع سعره من ٢٠ جنيهًا هي مكافأته في أول استمارة قام بالتوقيع عليها، إلى ٤٣ مليون جنيه إسترليني، هي قيمة العقد الذي انتقل به العام الماضي إلى النادي الإنجليزي قادمًا من روما الإيطالي. وخلال الأشهر الستة الأخيرة، ارتفعت قيمته السوقية بدرجة أكثر من أي لاعب آخر في أوروبا: من ٨٨ مليون يورو في سبتمبر الماضي، إلى ١٦٣ مليون يورو، في ١٣ مارس الماضي، والرقم في تزايد بعد أن أصبح على رادارات كل أندية أوروبا. غير أن نادي ليفربول قال إن نجمه المصري ليس للبيع، حتى لو تلقى عرضًا قياسيًا يجعله أغلى لاعب كرة قدم في العالم. وسبب ذلك، ببساطة، هو أن «ليفربول» يريد الحفاظ على هدافه الأول هذا الموسم، من أجل المنافسة على لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الموسم المقبل.

قيمة اللاعب ما عادت تقاس بمهاراته وقدراته وشعبيته، بل بقيمته السوقية. إذ يقول الواقع إن كرة القدم تحوّلت من كونها لعبة شعبية أو لعبة للمتعة إلى صناعة تديرها آلة اقتصادية ضخمة، يتزايد حجم الأموال التي تتدفق إليها باستمرار: ارتفاع سعر حقوق البث التليفزيوني.. وقيمة العقود والصفقات الإعلانية.. وكذا ما يتعلق باستخدام أو استغلال اللاعبين في الدعاية والتسويق. وتكفي الإشارة إلى أن حقوق بث الدوري الإنجليزي عن الفترة بين ٢٠١٦: ٢٠١٩ بيعت بـ٥ مليارات إسترليني. وربما مات «الأطرش» من الغيظ أو «الخضّة» لو عرف أن شركة «adidas» دفعت مليار يورو، حتى يحمل «ريال مدريد» شعارها، بموجب عقد ينتهي في ٢٠٢٤. ولن أحيل الأطرش أو «التارديجرادا» إلى عشرات الكتب والدراسات التي تناولت التداخل والتشابك بين كرة القدم والسياسة وبينها وبين الاقتصاد.

لكرة القدم، أيضًا، قوانين. سبعة عشر قانونًا تنظم كل شيء يتعلق باللعبة: أرض الملعب، كرة المباراة، زي اللاعبين، الحكام، المخالفات وكيفية تنفيذها، مدة المباراة. لكن محمد صلاح أضاف قانونًا جديدًا، إلى قوانين اللعبة، بل إلى قوانين الطبيعة، وأثبت أن قوة التجاذب بين جسم اللاعب والكرة لا تتناسب طرديًا مع حاصل ضرب كتلتيهما، أو عكسيًا مع مربع المسافة بين مركزيهما، بما يتناقض مع قانون الجذب العام لنيوتن. إسحق نيوتن الحقيقي، وليس ذلك المزيف، المستحدث أو المضروب، صاحب عمود «المصري اليوم» الذي يتناوب على كتابته غلمان صلاح دياب!.

مع كتاب الفيزياء، سيذكر كتاب التاريخ، أيضًا، ألا أحد في تاريخ الكرة المصرية وصل إلى هذا المستوى في الدوري الإنجليزي. وإليه يرجع فضل وصول منتخبنا الوطني إلى نهائيات كأس العالم، بعد غياب ٢٨ سنة، بتسجيله خمسة أهداف وصناعته هدفين، واضعًا نهاية لواحد من أكبر ألغاز الكرة الإفريقية، لغز عدم قدرة الفريق الذي فاز بكأس الأمم الإفريقية سبع مرات، على التأهل للمونديال. وهو اللغز أو «النحس» الذي تم فكه على يدي محمد صلاح أو على قدميه، وتأهل فريقنا الوطني لـ«مونديال» روسيا، وتحققت المعجزة التي لم تتكرر منذ ١٩٩٠ حين شاركنا في «مونديال» إيطاليا، ونزلت عدالة السماء على ستاد «باليرمو» أو على مجدي عبدالغني، وأحرز الهدف اليتيم!.

هدية الله إلى مصر وهدية مصر إلى العالم، يتصدر قائمة هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز لهذا العام، ويشق طريقه إلى جائزة الحذاء الذهبي، وإلى الكرة الذهبية. والأهم هو مصر كلها، بكل فئاتها، بشبابها وعواجيزها، ينتظرون سماع نشيدهم الوطني في أكبر محفل لكرة القدم في العالم، وعشمهم كبير في أن ينسوا الهدف «اليتيم» بأهداف أخرى، يحرزها «سيحرزها» محمد صلاح، الذي من المتوقع، من المتوقع جدًا، أن يكون أحد أبرز نجوم كأس العالم، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق.

احتفل كما شئت، إذن، بمحمد صلاح وافرح وافخر وتفاخر بما حققه وبما سيحققه، ولا تلتفت إلى خنزير الطحلب أو دب الماء أو الكائن المجهري المعروف باسم «التارديجرادا»، ولا تنتظر اختفاءه، أو توقفه عن محاولة التنكيد عليك، إذ قال العلماء إنه الكائن الوحيد الذي سيعيش بعد فناء الأرض!.