الجبل دخل البيت
لن أنسى أنه وفى مواجهة كاميرا إحدى الفضائيات التى قامت بتغطية كارثة الدويقة التى شهدناها فى آخر العهد المباركى، قامت سيدة مسكينة برفع يدها غاضبة مستغيثة «الجبل دخل البيت».. لقد أوجزت السيدة البسيطة الكارثة ببلاغة فى وصفها مدى بشاعة الكارثة.
فالجبل الذى كان يمثل لها الحجاب الساتر من عيون السلطات وهى تجمع الطوب والزلط والحصى والرمل والصفيح وبقايا الأخشاب لتبنى وأولادها الحائط تلو الحائط، حتى يكتمل ما يمكن أن تسميه دارًا قد غدر بها ونزل بصخوره العملاقة فى قسوة ووحشية على بيتها وأولادها، وهى التى تصورت أن هناك معاهدة سلام كان القدر قد رتب صياغتها بين الجبل بأحجاره العملاقة، وبين من تم تهميشهم ولفظهم خارج دوائر الاهتمام الإنسانى والحكومى عبر حقب وأزمان تصاعدت فيها مشاكلهم.
بينما ظل الكثير منا عندما يمر بمنطقة عشوائية، يمصمص الشفاه حزنًا على حال القاهرة التى لفها حزام العشوائيات، ويرونها فقط أوكارا لإنتاج الجريمة وصناعة الانحراف القيمى والأخلاقى، وعششا لتفريخ كوادر مؤهلة وجاهزة للتجارة فى كل شىء، حتى لو كانت فى أعضاء البشر، وأرضا خصبة لصناعة الفكر المتطرف، ولا يلفت انتباهنا أو حتى يثير تعاطفنا شىء بقدر حال سكان تلك المناطق، باعتبارهم جماعة إنسانية ضاقت بهم الدنيا بقدر اتساعها، وبخلت بخيراتها عليهم بنفس القدر الذى فاضت بعطاياها، ودون حساب على سكان قرى سياحية إفرنجية البناء والهوية ومدن سكنية عصرية عالمية الامتيازات، يرونها من أعلى الجبل وهى ترتفع.
«الجبل دخل البيت».. يا لها من عبارة بات يخشى ترديدها الملايين فى عشرات العشوائيات.. قد لا يكون الجبل هو المقتحم فى كل مرة.. فقد سبق أن حركت الزلازل بعضها بقوة وهبطت ببيوتهم مرات المياه الجوفية والصرف الصحى، وانتشر بين سكان أغلبها الأمراض والأوبئة وكل نواتج تبعات الجهل والتخلف.. لقد تزايدت خطورة مشاكل تلك المناطق بتزايد أعدادها، فقد أعلن أحد مراكز المعلومات الحكومية المتخصصة فى أواخر الزمن المباركى، أن هناك ٣ ملايين نسمة يسكنون ١٦٧ ألف كيلومتر مربع من المناطق العشوائية، وأن تلك الأرقام مرشحة للتزايد بشكل خطير.
نعم «الجبل دخل البيت» وكشف تقصيرنا جميعًا، نظرًا لتكرار حدوث كوارث مشابهة فى نفس المنطقة منذ منتصف القرن الماضى فى حوادث شهيرة أعوام ١٩٦٤، ١٩٨٤، ١٩٩٤، ٢٠٠٠ وأخيرًا فى سبتمبر ٢٠٠٨، والكوارث قادمة وفق تقدير الخبراء وتأكيدهم العلمى الموضوعى.. ولم يكن التقصير مقصورًا على الجهات التنفيذية عندما لم تكن لها الوقفة الجادة والمطلوبة لمواجهة تلك الكوارث عبر أكثر من نصف قرن من الزمان، رغم توافر المراكز البحثية الهندسية والمعلوماتية وأيضًا مراكز الجامعات المعنية بعلوم إدارة الأزمات والكوارث.
نعم «دخل الجبل البيت» عندما اكتفينا بالبكاء على اللبن المسكوب، وجلد الذات وتحويل الأمر إلى مناحة ومكلمة فى كل مرة كنا نرى فيها الخطر، وفى أحسن الأحوال يرتفع صوت النداء التقليدى المتكرر عند حدوث النكبات حول ضرورة تخصيص وزارة أو هيئة أو مجلس أو صندوق لإدارة ومعالجة تبعات الكوارث، مع أن الجهات المعنية بالأمر كثيرة والدراسات العلمية والميدانية موجودة وجاهزة للتطبيق، وكل المطلوب أن يقوم كل منا فى موقعه بدوره الوطنى والإنسانى.
وعليه، كان التوجه الوطنى والإنسانى الرائع لنظام ما بعد ثورة ٣٠ يونيو والرئيس «السيسى» تحديدًا بالعمل على أكثر من محور لمواجهة الأزمة.. فكان إعلان أن القضاء على العشوائيات بكل درجاتها له الأولوية وفق درجة خطورتها، ووفق برنامج زمنى محدد وبتوقيتات قياسية، وعلى صعيد آخر تفعيل مشروع «تكافل وكرامة»، لدعم مواطنى تلك العشوائيات، والموافقة على إنشاء صندوق «تحيا مصر»، لدعم بناء تجمعات سكنية بديلة لهم وفق آلية عمل وإنجاز رائعة، شهدنا حصادها، النموذج الرائد من جانب إدارة دولة قررت النجاح والوصول إلى حلول ناجعة. تذكرت تلك السيدة وصرختها فى مواجهة جبل، وأنا أتابع بعض أصوات الجاحدين التى تُنكر الآن بغباوة وبشاعة مقصد روعة ذلك الإنجاز وتقلل من نتائجه، وكأن غشاوة باتت على عيونهم، فلا يرون الأحلام تتحقق ومشاعر الفرح والرضا والسعادة فى عيون وقلوب مظاليم العشوائيات.. من وراء هؤلاء؟!... وإلى أى وطن ينتمون؟!.. لكِ الله يا مصر.