حقيقة ما يجرى فى إيران
النجاحات، التى حققتها إيران فى الشرق الأوسط بالمحافظة على نظام الأسد، وسيطرة «حزب الله» التامة على لبنان، وتحكم الميليشيات الشيعية فى العراق، وما توفره إيران من صواريخ للحوثيين لاستنزاف المملكة، وصعود نجم قاسم سليمانى إلى الواجهة، كل ذلك أعطى انطباعًا بأن هزيمة إيران وحلفائها أصبحت مستحيلة.
فى يوم الخميس الموافق ٢٨ ديسمبر ٢٠١٧، اشتعلت المظاهرات فى مشهد المدينة المقدسة لدى الشيعة الفرس، وانتشرت فى عدّة مدن تخطت اليوم المائة مدينة، فشكلت صدمة ليس للإيرانيين فحسب، بل لحلفائهم أيضًا، فكان من جرائها عدم التعليق من قبل حزب الله، وتراجع فى الموقف العسكرى لدى الحوثى، وذهول انتاب الحشد الشيعى فى العراق.
بدأت المظاهرات بمطالب تمثلت فى الشكوى من تردى الأوضاع المعيشية فى إيران، والبطالة، ثم تطورت إلى المطالبة بعدم التدخل فى شئون الدول الأخرى، ودفع الأموال للميليشيات والعملاء، وفى زيارتى لإيران عام ٢٠١٤ بدعوة من الخارجية الإيرانية لى كرئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية، قلت لهم: إن هذه هى الزيارة الثانية لإيران، فالأولى كانت عام ١٩٧٩ فى آخر أيام الشاه، وفى زيارتى وجدت أن إيران اليوم تراجعت ثلاثين عامًا للخلف مما كانت عليه، وعقب على أحد الإيرانيين وهو يهمس قائلًا إنها أربعون سنة. لقد قلت لهم إن الأجواء التى وجدتها فى إيران، هى نفس الأجواء التى كنت أشعر بها فى الاتحاد السوفييتى قبل انهياره، لم أتصور أن ثورة الجياع والفقر سوف تحدث بهذه السرعة، والغريب فى الأمر لم أتلقَ مغالطات أو إنكارًا حول ما أبديت من ملاحظات فى إيران، لكنى وجدت أن هناك إصرارًا يتوارى بين كلماتهم على المضى فى الطريق إلى نهايته رغم التحذيرات التى أبديتها.
لقد تطورت المظاهرات لتتحول إلى ثورة شعبية، عندما طالب المتظاهرون بإسقاط الرئيس روحانى والمرشد الأعلى خامنئى فوصفوه بالديكتاتور، وهذا يعنى الانتقال من المطالب والاحتجاجات إلى تغيير النظام.
لقد أدركت أن هذه الثورة يصعب قمعها، فقد صيغت على ما يبدو بموجب خطة محكمة فى مواجهة الأجهزة الأمنية، لقد استفاد الثوار من الثورة الخضراء التى انفجرت فى طهران عام ٢٠٠٩، فهذه الثورة انحصرت فى طهران فأمكن قمعها بسهولة ووضع قادتها حسين موسوى ومهدى كروبى رهن الإقامة الجبرية. أما الثورة اليوم فقد انفجرت فى مشهد، المدينة المقدسة لدى الإيرانيين، ما يدل على أن بعض رجال الدين يتضامنون معها ثم انتشرت فى ٦٠ مدينة، وبهذا استطاعت أن تجتذب إليها قوات الأمن من الحرس الثورى والباسيج وباقى أجهزة الأمن إلى هذه المدن وتشتيت جهودهم، ثم أشعلتها فى طهران وقم وأصفهان. كما أن الثورة استفادت من أخطاء الثورة الخضراء، عندما أخفت أسماء قادتها فلم تجد الحكومة الإيرانية غير اتهام الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية بالوقوف وراء الثورة، لقد ذهبت كل محاولات النظام الإيرانى لإجهاض الثورة أدراج الرياح.
أراد النظام اختطاف الثورة بأن اتهم أحمدى نجاد وإبراهيم رئيسى بإشعالها، ودفعوا بهما إلى صفوف الثوار، لكن الثوار رفضوهما وأكدوا أنهما جزء من النظام، كما أن النظام الإيرانى استمع إلى نصائح الإخوان المسلمين بأن ينزل إلى الشارع مؤيدون للنظام كما حدث فى مصر، لكن ذلك فشل، فالذين نزلوا إلى الشوارع كانت مسيرتهم باردة، لأنها نزلت بالتهديد والإغراء، وهم من العمال والموظفين.
إن الخطورة الأكبر، هى أن المظاهرات فى الأقاليم غير الفارسية، أخذ يغريها ذلك بالاستقلال مثل خوزخستان، وبلوشستان، وكردستان، وأذربيجان، فمثلًا فى مدينة تبريز، ذات الأغلبية الأذارية، ردد خمسون ألف متفرج فى مباراة بين فريقى «تراكتور نازى» و«استقلال طهران» الهتافات التى أطلقها المحتجون فى طهران وباقى المدن الإيرانية، وتكرر هذا المشهد فى عدد من الملاعب فى أرجاء إيران، كلهم يرددون الموت لخامنئى. لقد أخذ المتظاهرون يرددون الهتافات ضد النظام ليلًا ونهارًا، ما يعنى أنهم يريدون إرهاق القوات الأمنية، فتتوقف عن ملاحقتهم، وهناك من يتهم اللوبى الإيرانى فى الولايات المتحدة الأمريكية، فهم يتواصلون مع المتظاهرين عبر التليجرام والإنستجرام وهما من أهم منصات التواصل الاجتماعى. كانوا يحضونهم على الوسم الجديد ومسمى الحركة «إيران الجديدة» restart iran وطالبوا الحكومة الأمريكية بدعمهم، فقد بدأت الحركة بالاحتجاج الملون، ثم طلبوا من المتظاهرين رش الألوان على جدران المبانى التابعة «للباسيج الإيرانى» والباسيج هو القوة التى هيأتها إيران لقمع التظاهرات وإرهاب المحتجين.
بعدها انتقلوا إلى حض المواطنين الإيرانيين على رشق نوافذ المبانى الحكومية بالحجارة، ومن ثم تطور إلى تخريب الممتلكات، ما دعا الرئيس حسن روحانى إلى ملاحقة القائمين على تدمير وتخريب الممتلكات العامة، لقد استطاع المتظاهرون كسر حاجز الخوف، لكن شعار «إيران الجديدة» ظهر قبل الثورة بعدة شهور، وكأن هذا الرمز يهيئ الأجواء للثورة دون اهتمام من قبل الأجهزة الأمنية.
لاحظت السلطة هذا الشعار قبل شهر، فمنعت انتشاره، كما أغلقت الشركة المنتجة لهذا الشعار، أما المتظاهرون فقد جهزوا أنفسهم أن يكون العمل سلميًا، لقد استلهموا شعار إسقاط نظام الحاكم المستبد، الذى سارت عليه الجماهير فى صربيا ضد نظام «سلوبودان ميلوسوفيتش»، ونظام «شفاردينا دزه» فى جورجيا، والطلاب ضد نظام سوكارنو فى إندونيسيا، ومع هذا فإن الشعب الإيرانى لا يرغب فى الغزو الخارجى.
لقد كانت السياسة الاقتصادية هى أول من فجر الثورة، فالبطالة أصبحت تتراوح ما بين ١٢ ٪ و٦٠ ٪ حسب اختلاف المدن، و«برويزفتاح»، رئيس لجنة الخمينى للإغاثة الحكومية اعترف، فى اليوم الأول من المظاهرات، بأن الفقر أصبح يخيم على ٤٠ مليون إيرانى وأن ١١ مليونًا منهم يعيشون فى مناطق مأساوية. رغم حصول النظام على مليارات من الدولارات نتيجة للاتفاق النووى، فقد أنفقتها القيادة على الحروب وتمويل التدخلات الإيرانية فى الدول العربية، لهذا كان اتخاذ حكومة روحانى فى سبيل سعيها إلى ترتيب أرقام الموازنة الجديدة قرارين، أشعلا الغضب الشعبى.
القرار الأول رفع أسعار الوقود بنسبة ٥٠٪ والثانى الإعلان عن إلغاء برنامج الإعانات المقدم للفقراء، الذى يستفيد منه ٣٤ مليون مواطن، وما أثار غضب الجماهير عندما ظهرت أرقام تم تخصيص الجزء الأكبر منها للإنفاق على «الحرس الثورى» والمؤسسات الدينية المرتبطة بالمرشد.
لقد فاقم من الأزمة وضع منظمة الشفافية الدولية «International Transparency» إيران فى مقدمة الدول الأكثر فسادًا، عندما أعلنت أنها أصبحت تحتل المرتبة ١٣٦ من أصل ١٧٥ دولة من حيث الفساد، إضافة إلى تأخر الرواتب، وانخفاض الأجور، وتفشى الفساد بين رجال السلطة، وقد كان لمؤسسة مورجين- التى أعلنت أن ٥٪ من الطبقة الحاكمة تستحوذ على ثروة البلاد، وقد قدرت ثروة المرشد بنحو ٩٥ مليار دولار- الأثر الأكبر فى حنق المتظاهرين، ما أدى إلى أن ترتفع هتافات المتظاهرين بالقول «لا للديكتاتور.. اخجل يا سيد وارحل من إيران.. لا غزة لا سوريا لا لبنان، أرواحنا فداءً لإيران، لا نريد الجمهورية الإسلامية، لا لاستغلال الدين، الشباب عاطلون والملالى يحتلون المكاتب».
لقد سقطت سياسة المفاخرة بالإنجازات الخارجية للتغطية على المآسى الداخلية فهذه الأسباب، بالإضافة إلى القمع الداخلى وسجن المتظاهرين، وسلسلة الإعدامات، لم تعد تخيف الشعب الذى قرر تغيير النظام.
فالمظاهرات التى جاءت بالخمينى هى التى سوف تسقط نظام الخمينى، والبازار الذى دعم الثورة عام ١٩٧٩ هو البازار الذى يدعم اليوم ثورة ٢٠١٨، وتصدير الثورة الذى نادى به الخمينى هو الذى استورد الثورة فى عهد خامنئى، لكن السؤال لماذا تدعم قطر النظام فى إيران ضد الشعب الإيرانى؟ هذا هو ما نجيب عنه فى الأسبوع القادم.