جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

حمدين حجاج يكتب.. الطب والضمير.. "صراع البديل"

حمدين حجاج
حمدين حجاج

عندما تختار المجتمعات طوعا أو يُفرض عليها جبرا، اغتيال ضمائرها، فالحقيقة التي تؤكدها التجربة، أنهم بذلك قد أطلقوا الرصاص علي ما يحملوه داخلهم من إنسانية، تمثل المرجعية الأخيرة والفاصلة بين عالم الحق والضلال.

وبدون تهوين أو تهويل، يجد الجميع نفسه علي موعد مع حالة من الإنهيار الأخلاقي، والإنفلات القيمي، وتردي الذوق العام، ليكتمل الوضع المأساوي، بسيطرة أنصاف الكفاءات علي المشهد العام، واختفاء شبه تام لأصحاب المواهب الحقيقية، في ظواهر أشبه بالسقوط في الهاوية.

ووسط تلك الصورة الضبابية، تظهر فئة تشتهر بأنها تقبض علي مبادئها كما القابض علي الجمر، لا يُرهبها سيف المعز ولا يُغريها ذهبه.

لكن تبقي الحالة المصرية دوما هي الاستثناء، في ظل حرصها علي التواجد في المنطقة الأكثر شذوذا بين كل ماهو شاذ.

أزمة حادة في الضمير تضرب الدولة المصرية بأكملها، بدءا من أعماق الريف حتي قاع الحارة، جعلت المجتمع يعيش حالة من الصراع الملتهب علي أشده بين أبناء الوطن الواحد.

ومؤخرا؛ كان السقوط في وحل الإنحدار من نصيب مهنة "الطب"، والتي كانت حتي الوقت القريب، أشبه بعالم الملائكة، يرفرف أبنائها بظلال المودة والعطف، علي غيرهم من أهل الداء.

عالم الطب الذي تحول إلي وسيلة للكسب الرخيص بين يدي حفنة من الأطباء، لا يشغل بالهم، سوي تشييد أحلامهم وتحقيق الثراء، علي حساب أجساد ودماء مرضي لا ذنب لهم، سوي أنهم لم يجدوا من يحنو عليهم أو يرفق بهم.

حوادث عدة توالت أحداثها الواحدة تلو الأخري، عرت أصحاب الرداء الأبيض، بداية من سلخانات سحل الجيوب التي تتم بحق المرضي، وانتهاءا بحالات الإهمال الجسيم، و ما بينهما من ظواهر سلبية أخري وكثيرة، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، بأن عهد الطبيب الإنسان ولي إلى غير ذي رجعة، وأنه قد حان الوقت لقراءة الفاتحة علي تلك الأيام الخوالي.

ويبقي أكثر ما يجذب الانتباه، هو كم حوادث الفساد، التي طالت عددا غير قليل من صفوة المجتمع الطبي المصري، كسقوط أحد مستشاري وزير الصحة متلبسا بالرشوة، قبل أن تأتي واقعة الكشف عن الشبكة الدولية للإتجار بالأعضاء، لتكون بمثابة القشة التي قسمت ظهر أحفاد "أبو قراط".

والمثير أن تلك كوارث الفساد، جاءت من شخصيات بلغت من العمر أرذله، ونالت أقصي مراتب المجد الأدبي والمعنوي، لكنها آثرت الهوي، لتجد نفسها في النهاية بدلا من الوقوف علي منصات علي التكريم، علي موعد مع الدخول في مزبلة التاريخ، والحقيقة أنها تستحق ذلك.

إذا السؤال فمال بال أجيال من شباب الأطباء وهي تتلمس خطواتها الأولي في تلك الأجواء المؤسفة؟؛ في ظل سيطرة "أهل الشر" علي مفاصل المنظومة الطبية من الرأس إلي القدم، وغياب القدوة و افتقاد المثل.

والمؤكد أن هناك صراعًا يدور علي أشده داخل المجتمع الطبي، بين الضمير المهني من جهة، والذي يشكل الأساس، وبين "اللاضمير" من جهة أخري، والذي يمثل البديل، في صراع، تميل فيه كفة الميزان حاليا وبقوة نحو الخيار الثاني.

لكن الشىء اليقيني أنه إلي زوال، مهما طالت الأيام، والشاهد علي ذلك تلك الآية القرانية الكريمة " فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، صدق الله العظيم.