رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

... فى مكافحة الفساد


رغم قناعتى بأن الحرب التى نخوضها دفاعاً عن وجود الدولة، كانت تستوجبُ اعلانَ حالة الحرب رسمياً وتطبيق ما تفرضه من دواعٍ واعتباراتٍ خاصة، إلّا أن مصر اتخذت منهجاً آخر فى اتجاهين متوازيين، الأول أن تخوض حربها المقدسة دفاعاً عن وجودها بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وتضحيات، والثانى أن تخوض ملحمة الإصلاح وإعادة بناء الدولة بكل ما يستلزمه ذلك من حوارٍ ونقاش وعملٍ وإخلاص وتفانٍ ومثابرة، هذا هو المنهج الأصعب والأعظم فى مواجهة التحديات، ومع ذلك أعتقد أن الوازع الوطنى يفرض علينا ألّا تصرفنا قضايا الاتجاه الثانى، عن دواعى واعتبارات الاتجاه الأول بحسبانه المحدد الأهم ليس لمصير الدولة المصرية فحسب، ولكن لمصير المنطقة الإقليمية كلها فى مرحلةٍ تاريخيةٍ فارقةٍ يُعادُ فيها رسم الخريطة السياسية الدولية من جديد، ومن باب أولى عدم طرح الموضوعات الهامشية وإثارة النقاش والاختلاف والتناحر حولها - حسبما درجت عليه بعض وسائل الاعلام - بما يؤدى إلى تشتيت الذهن وإضعاف وحدة الصف. من ناحيةٍ أخرى وبذات المنظور السابق، فإن بعضاً من قضايا الإصلاح والبناء أراها مرتبطةً ارتباطاً وثيقاً بمنظومة حربنا المقدسة التى نخوضها بضراوةٍ على محوريها العسكرى والاقتصادى، ومن هذه القضايا الحيويةقضيةُ مكافحة الفساد التى تُعدُ بحقٍ إحدى الركائز الأساسية للحفاظ على كيان واستقرار الدولة وتقدمها،ومن ثَمَّ فهى تستحق الطرحَ بمزيدٍ من الحوار والدراسة ومزيدٍ من الجهد والعمل بشرط أن يكون الطرحُ موضوعياً وبعيداً عن الأغراض الشخصية أو المزايدات السياسية.

لقد تناولت هذا الموضوع فى مقال الأسبوع قبل الماضى، بالبدء بتعريف الفساد بأنه استغلال الصفة لتحقيق منفعةٍ شخصيةٍ على حساب المصلحة العامة، وأن له نمطين: مالى وإدارى، كما أنه بنمطيه له جانبان: جانبٌ حكومى وآخر أهلى. وأعتقد أننا بهذا الإطار المحدد نستطيع طرح القضية برؤيةٍ موضوعيةٍ دون تهوينٍ أو تهويل، ويجب أن يكون النظر للموضوع شاملاً وليس مقصوراً على جانبٍ واحدٍ وهو الجانب الحكومى، لأن الفساد كسلوكٍ إنسانى معيب لا يختلف فى مكنونه وتأثيره السيئ من مكانٍ لآخر، كما أن استشراءه فى أى جانبٍ مجتمعى ينتقل به حتماً إلى الجوانب الأخرى، ولذلك فإن مكافحته والقضاء عليه يجب أن تكون بإجراءاتٍ حاسمةٍ ورادعةٍ على جميع الأصعدة فى آنٍ واحد.

تبقى رؤيةٌ عامة أتمنى ألّا تغيب عن المعنيين بالأمر، وهى أن الفساد فى نمطه المالى بكل صوره هو انحرافٌ أخلاقى فى المقام الأول والأخير، وهو مؤثم بكل أوصافه بالعديد من نصوص قانون العقوبات سواءً كان فى الجانب الحكومى أو غير الحكومى، وبالتالى فإن العبء الأكبر فى مكافحته يقع على كاهل الأجهزة الأمنية المختصة التى يجب دعمها ومؤازرتها مادياً ومعنوياً لتفعيل رسالتها فى كلا الجانبين. ثم يأتى فى الجانب الحكومى دور القيادات الإدارية، حيث يجب التدقيق فى اختيارها وحسن تأهيلها ثم منحها الثقة والصلاحيات القانونية اللازمة لاقتلاع العناصر الفاسدة أو التى تحوم حولها الشبهات، وتغيير النظم العقيمة البالية بآلياتٍ يسيرةٍ وحاسمة. وأخيراً يجب على المهتمين بهذه القضية عدم الاستغراق فى الحديث عن ضعف الدخل أو الراتب الوظيفى كسببٍ للفساد المالى، لأن هذا الطرح يفرغ جهود المكافحة من محتواها، بل ويؤدى بطريقٍ غير مباشر إلى تقنين الظاهرة الإجرامية، فضيق ذات اليد مثلاً ومهما بلغ لا يسوغ طرحه كذريعةٍ للسرقة ولا يجوز تقنينه كمبررٍ للانحراف، فإذا ما كان معلوماً أن مسألة ضعف الأجور هى مشكلةٌ عامة تعانى منها كل فئات الشعب وطبقاته نظراً لظروف الدولة الاقتصادية، فإن الانزلاق إلى الحديث عنها عند مناقشة موضوع الفساد فى هذا القطاع أو ذاك، يكون بمثابة إهدار للوقت والجهد واضاعةٍ للطريق والهدف. حفظ الله مصرنا الغالية، وهدانا جميعاً سواَءَ السبيل،،