رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرية بين القدرية والقوانين الوضعية «3»


كل شىء على وجه الأرض مرتبط بظروفه ووفقا لمدى الارتباط به أو الاحتياج إليه، وقضية الاحتياج تعلن عن ذاتها، فالكون الذى نعيش فيه لم يوجد بذاته أو لذاته، بل وجد لمواجهة الاحتياج إليه. ووفقاً لنظرية هيراقليطوس «كل شىء فى الوجود له ضرورة ويقابلها مسئولية وبين مواجهة الاحتياج والمسئولية وجد العقل لضبط العلاقة بينهما»...

... كما أن نظرية الحتمية أو الجبرية مبنية على الافتراض أن كل ما يحيط بنا فى هذا العالم –كبشر هو مصير محتوم تقدره الطبيعة وأنه معد مسبقاً بواسطة العقل الأكبر، ووحده وضع كل حدث يحدث حولنا، وأن هذه القوة يعبر عنها الإنسان بالخالق الإله الضابط لكل الأحداث التى يدور الانسان فى فلكها. ومن هذا المفهوم خرج الفكر أن كل الأشياء معدة مسبقا ولا يستطيع المخلوق أن يغير من خطة الخالق أو يتجنبها أو يعدل من مسارها، وهذه هى نظرية الجبرية أو الحتمية أو القدرية. ويترتب على هذه النظرية تأثير خطير فى حياة الإنسان، فهو أقرب لتعبير القشة فى مهب الريح، فكل الأشياء معدة ومقدرة ومقررة سلفاً، ولا دخل للبشر فيها تجنباً أو تعديلاً أو توقيتاً، حيث لا سلطان لأحد على القدرية الحتمية، ذلك هو قانون القدر الذى يجعل الإنسان كالحصان الملجم ويسير وفقاً لإرادة صاحبه، ولا مجال له لتغيير مسيرته.

تلك هى النظرية التى فسرتها المسيحية بقانون الإنسان مسير لا مخير وفقاً لإرادة الذات الإلهية، وما على الإنسان إلا التسليم للأقدار المقدسة تسليماً مطلقاً كالموت المحتوم. ومع عصر التنوير بدأت بوادر التحرير والانتقال من تسيد فكر القدرية إلى سيادة القانون والجرأة على ما كان يعد من الخطوط الحمراء حتى لمجرد الحديث بما يخالف نظرية المقدر والمحتوم، حتى قبل أن يولد الإنسان، فهو ليس مخيراً، بل مسيراً بنجاحه وفشله، ولا مساحة بين القدرية والحرية إذ لا مكان للحرية هنا، حيث إن العقل الأكبر الذى يفوق كل العقول قد سبق فرتب كل الأوضاع الكونية التى يمر من خلالها البشر، بل والطبيعة وكل الكائنات، حيث إن العقل الأكبر قد رتب كل ما يخص خليقته، فالله هو الخالق والضابط كل الأشياء، ولا يستطيع كائن من كان أن يتحكم فيها أو يغير مصيرها ومسيرتها، معبرين عن ذلك بنظرية القدر المحتوم أو الجبرية.

ويرى المفكرون أن التسليم بالقدرية المطلقة نظرية مدمرة للحياة البشرية، حيث يصبح الإنسان قشة فى مهب الريح، فكل شىء مقدر ومكتوب، ولا سلطان لأحد على تغيير أو تعديل لقدرٍ أعد مسبقاً قبل أن يولد الإنسان، مع ما فى إطلاق هذا الفكر من قتل للفكر والإبداع والحرية، حيث إن كل الأشياء سبق إعدادها ولا مجال للتعديل أو التغيير فيها أو منها.

أما النظرية الحديثة فى هذا المجال فقد ربطت بين الثقة فى قدرة الخالق كلى العلم وكلى الارادة وكلى الحكمة وهو كلى الحب والعطاء، إله الخير والحب والسخاء، وبيده المقادير، ومن هذا المعنى يمكن أن يصبح الفقير المعدم قائداً، بل ورئيساً أو ملكاً، فالله لم يقيد الإنسان من أن يعمل ويجتهد وينال أجر ما عمله، ومن يهمل ويقصر فقد يخسر ما لديه ويفقد كل ما وصل إليه، وبهذا سمعنا عبارة «لكل مجتهد نصيب». أما فكرة الحرية بإطلاقها فقد كتب الفيلسوف الألمانى «هيجل» لا توجد أفكار من فراغ، والعقل هو المسيطر على العالم الذى يمثل تاريخه مساراً عقلياً، كما أن العقل لا يتعالى على الواقع، ولا ينفصل عنه ولا يتجزأ، وهذا هو العقل الكونى، وذلك لا يتعارض أبداً مع الحكمة الربانية التى لا تتعارض أبداً مع الواقع ولا مع جهود الإنسان ومسئوليته كما فى حالة إنقاذ غريق أو نجدة مظلوم أو غوث ملهوف. وقد وضع هيجل نظريته الشهيرة والمرتبطة باسمه، إذ سميت «النظرية الهيجلية»، ومفادها: إن العقل يحكم التاريخ، وتناول ثلاثة عناصر غاية فى الأهمية.

١- ما هو العقل.. ٢- الأساليب التى يستخدمها العقل.. ٣-الصورة التى يتحقق فيها العقل.

أما عن ماهية العقل فهى الحرية والاستقلال الذاتى، وما العوامل الخارجية إلا وسيلة وسيطة لنمو الذات والروح الذى هو الوعى الذاتى الذى يعى نفسه حين يدرك العالم الخارجى، ويدرك ايضاً أن تاريخ العالم ليس إلا صراعاً من جانب الروح للوصول للوعى الذاتى الذى يسعى إلى تحقيق الحرية فى إطار من الوعى الحقوقى والأخلاقى.

كما أن ظهور الحقبة المسيحية وكيف ساعدت هذه الحقبة على تشجيع الفرد والاعتراف بحقوقه وأهمها الإيمان بالله، كما نادى «كانت» أن الفرد هو ذات عاقلة وحرة ومستقلة، بغض النظر عن كونه ينتمى إلى أعراق مختلفة أو طبقات اجتماعية متنوعة، وفى ذلك قمة تطورالروح، وأعلى درجات الذات.

وفى نهاية الأمر يخرج «كانت» بهذا الملخص «إذا كان العقل كما يقول «هيجل» يحكم العالم، وأن التاريخ البشرى ما هو إلا نموذجاً لهذا العقل الكونى فإنه سوف يجد ذاته واقعياً فى نموذج الدولة المدنية الحديثة كنظام عقلانى مستمد من القانون المدنى المؤسس على مبادئ «المعقولية والحرية»، وبهذا يحل مفهوم الحق الوضعى محل الحق الإلهى للملوك، وستحل أسماء المشرعين القانونيين المدنيين محل الملك داود والملك سليمان وغيرهما الذين مارسوا فى زمانهم الحق الإلهى وحق الحاكم، وسيحل فى العصر الحديث مشرعون للدولة المدنية، وليست الدولة الثيوقراطية، ومن أمثلتهم «هوبز»، و«منتسكيو»، و«روسو» كمنظمين لدولة الحقوق المستندة الى إرادة الشعوب، أى الإرادة العامة، وينتقل المجتمع من نظرية الطاعة العمياء للحاكم أو ولى الأمر باعتباره ظل الله على الارض وخليفته إلى المعنى الجديد، وهو مجتمع دولة القانون الوضعى القابل للتغيير والتعديل والتنقيح لصالح الشعب، وليس وحياً غير قابل للنقد، وبذلك تتغير سلطة الحاكم المطلقة وذلك بموجب عقد اجتماعى، فيصوره دستورا يتعهد فيه الحاكم أن يحترم الدستور والقانون، وبذلك يكون قد وقع على عقد بينه وبين الشعب، ويعين الشعب مجلساً نيابياً، أو مجلسين، لمراقبة الحاكم حتى لا يخرج عن قواعد الدستور والقانون، وأنه يرعى مصالح الشعب رعاية كاملة. وللحديث بقية فى العدد المقبل بعون الله.