رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فن الخط العربى


من منا لم يقف مبهورًا ومشدوهًا أمام نقوش الكتابة على جدران المعابد الفرعونية باللغة الهيروغليفية، وهى أسلوب الكتابة بالصور والرموز التى قام بتفكيك طلاسمها الفرنسى القدير «شامبليون» بعد عثوره على ما يسمى بـ«حجر رشيد»، وعن طريقها توصلنا إلى حل الكثير من الطلاسم والرموز التى حفلت بها أعمدة المعابد الفرعونية التى مازالت شامخة رغم أهوال السنين، وكتب التاريخ الخلود السرمدى للفراعنة الأجداد.

كذلك عرفت الأمة العربية كيف تؤصل لتراثها الخالد باللغة العربية، بل تبدع فى كتابتها بالخط العربى، الذى فاق كل فنون وتصميمات الكتابة فى مختلف اللغات، لتميزها بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والاستدارة والزوايا والتشابك والتداخل والتركيب، واقترانها بفنون الزخرفة العربية «الأرابيسك»، واستخدمت لتزيين المساجد والقصور، وتجميل أطر الصفحات فى المخطوطات خاصة القرآن الكريم، الذى أقسم فيه الله عز وجل بالقلم والكتابة فى قوله تعالى « ن والقلم وما يسطرون» .ولنا أيضًا أن نستحضر ما قاله ابن خلدون فى مقدمته «الخط هو ثانى مرتبة من مراتب الدلالة اللغوية، وجودة الخط تدل على مدى التقدم والعمران والحضارة»، لذا.. برع فى مجال الزخرفة هذه الكثير من الفنانين المسلمين لاعتقادهم أن الشريعة تنهى عن تصوير البشر والمخلوقات الأخرى من حيوانات وطيور، ولا يجب تواجدها على الأماكن المقدسة والمخطوطات وأولها القرآن الكريم، وكانت مصر صاحبة الريادة فى هذا المجال ،وأول من قطعت باعًا طويلاً فى مجال إبداعات فن الخط العربى، بدءًا من عهد الملك فؤاد الذى قام باستقدام الشيخ عبدالعزيز الرفاعى من تركيا فى عام ١٩٢١م، الذى قام بكتابة المصحف الشريف فى ستة أشهروذهَّبه وزخرفه فى ثمانية أشهر أخرى، وبعد عام أصدر الملك أمره بتأسيس مدرسة للخط العربي، وكان على رأس مدرسيها الشيخ عبدالعزيز الرفاعى وانتظم فى هذه المدرسة مئات الطلاب وقد تخرجت أولى دفعات هذه المدرسة فى عام ١٩٢٥م،وكان لهذه المدرسة الفضل فى تخريج كوكبة من نوابغ هذا الفن، وكان فى مقدمة هؤلاء الخطاط الرائد والنابغة سيد إبراهيم، الذى ولد فى حى القلعة فى شهر أغسطس من عام ١٨٩٧م، وكانت أولى علاقة سيد إبراهيم المباشرة بالخط العربي، وبعد الكتاب التحق بالتعليم الأزهرى النظامى ، وذاع صيته وتهافتت عليه المعاهد العلمية والفنية ليقوم بتدريس الخط العربي، وتخرجت على يديه أجيال من الخطاطين المصريين والعرب والأجانب، وهناك العشرات من الفنانين الأفذاذ فى مجال فنون الخط العربى الذين برعوا واستعانت بهم دور النشر فى مصر والعالم العربي، وخصصت لهممكتبة الإسكندرية العديد من الموسوعات التى تؤرخ لفنونهم وما تركوه من تراث يثرى المكتبة العربية والعقل العربى، ولا يتسع المجال هنا للحديث عنهم بالتفصيل لأنهم كثُر على الساحة الثقافية المصرية.

ولست هنا بصدد استعراض تاريخ نشأة الخط العربى وتدرجه عبر العصور ـ فلهذا حديث آخر ـ ولكنى أردت الإصرار على التنبيه بضرورة الاهتمام بتعليم قواعد وأصول الخط العربى للأجيال الصاعدة ، حتى لاتصطدم أعيننا بتلك الخطوط الرديئة التى تشبه ما يسمونه من قبيل التعبير عن الفجاجة والقبح بـ «نكش الفراخ»، والعمل الجاد على ضرورة العناية والتركيز فى كتابة الحروف العربية بما يليق بها من إجلال واحترام ، لأنها همزة الوصل بين القارئ واللغة العربية. وفى اعتقادى أن هذا الاهتمام لن يتأتى إلا بفتح المجال أمام كل الراغبين فى الاندماج مع هذا الفن الراقى، وتسهيل الانتماء أو الانتساب إلى مدارس ومعاهد تدريس وتعليم فنون الخط العربى بكل أشكاله الجمالية وألوانه المتعددة، فالخط العربى جماليًا له قواعد خاصة تعتمد على التناسق والتناسب بين الخط والنقطة والدائرة، ويعتمد على كل العناصر الفنية التى تستعين بها الفنون التشكيلية من الكتلة والفراغ،مما يجعل الخط العربى لوحة فنية تتهادى عين القارئ عليها فى انسيابية، كما يتهادى القارب على صفحة الماء الرقراق فى ضوء القمر . وكم رأينا من لوحات فى فنون الخط العربى تزدان بها القاعات الكبرى والقصور، تنقل إلى مشاهديها المزيد من الراحة لمجرد وقع العين عليها والتمعن فى إبداعات الفنانين العظماء، الذين جعلوا الحروف العربية تنطق بكل البهاء الذى تستحقه لغتنا العربية ومكانتها الرفيعة بين لغات العالم .

لا يستلزم الأمر سوى ضرورة إدراج تدريس فن الخط العربى ضمن مناهج جميع مراحل التعليم، وليس مقصورا على المراحل الأولى من التعليم الأساسى، بل جعله مادة أساسية يدرسها أساتذة متخصصون فى هذا العلم، لتصبح كراسة الخط العربى فى صحبة الدارسين حتى سنوات التخرج من الجامعة، على أن تنضاف درجاتها ضمن المجموع العام للطلاب فى فن الخط العربى من جميع الفئات والأعمار أسوة ببقية المواد الأخرى، وتسهيل الحصول بأسعار مخفضة على الأقلام والأدوات الخاصة بممارسة هذا الفن الراقي، لتخريج أجيال تلحق بسابقيهم من الفنانين العظماء الذين أعطوا حياتهم لهذا الجمال، فعاشوا فى ذاكرة الأمة خالدين.

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون