رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرية والمواد الدستورية «٢ »


تناولت فى مقالى السابق معنى الحرية وقيمتها فى المجتمعات المحلية والدولية، ولما كانت مصر الحديثة تحكمها القوانين الوضعية التى تتفق مع الدساتير المصرية، وآخرها الدستور الذى أيده الشعب بأغلبية كاسحة، وقد صرفت فيه لجنة الخمسين جهدا كبيرا ومعها أفاضل من رجال القضاء والقانون، عشرة من أساطين الفقه والتشريع، كما امتد زمن العمل ساعات النهار وأطراف الليل بلا ملل أو كلل،ولما كان موضوع هذا المقال عن الحريات فكان لزاما أن أعود إلى آخر الدساتير المصرية...

... حيث تضمن الباب الثالث من الدستور المواد ٥١ وحتى المادة ٩٣ باب الحقوق والحريات والواجبات العامة، فتمسك المشرع بحفظ كرامة الإنسان كحق لكل إنسان لا يجوز المساس بها وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها، والتعذيب بجميع صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم،والمواطنون -كل المواطنين - لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة،لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أوالجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى أو لأى سبب آخر، وحتى لا تترك القاعدة الدستورية أى ثغرة للتمييز فذات المادة تستمر فى البيان الآتى

«التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون»، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض . وتمضى المواد الدستورية فى تأكيد حماية الحريات الشخصية ومعاملة المتهم وفقا لمواد هذا الباب، وأنا لا أعتقد أن قانونا من القوانين التى أصدرها السيد الرئيس قد تعرض للمفوضية التى تحمى المواد الدستورية فى غياب المجلس النيابى، راجيا أن يكون من أولويات المجلس الجديد بعد أن انتهى من التصديق على غالبية القوانين التى أصدرها السيد الرئيس فى غيبة طويلة للمجلس النيابى حتى إنه لم يستطع مناقشتها واعتمادها كاملة حيث بلغت أكثر من أربعمائة قانون، والمشرع (اللجنة الدستورية ) لم يكن فى خلدها أن يغيب المجلس النيابى هذه الغيبة الطويلة لظروف أحاطت بمصر، ومن أهمها الإرهاب، وتعطيل المجلس النيابى، والقضاء على الغرفة الثانية، أى مجلس الشورى بدعاوى لمتقنع أقل قليلا من نصف لجنة الخمسين، وكنا من المعترضين على إلغائها، وذكرت فى معرض الدفاع عن البقاء عبارة «ليتنا نعود إلى تاريخنا»،إذ كنا سباقين بمجلس الشيوخ ثم، غيروها إلى مجلس الشورى، ولكن هكذا سارت الامور وألغيت الغرفة الثانية، واتسع عدد الغرفة الواحدة ليصل تقريبا إلى أعداد المجلسين، إذ بلغ عدد اعضاء الغرفة الواحدة ما يزيد كثيرا على أعضاء الغرفتين مجتمعتين.. فى الدستور الأمريكى «عدد مجلسى النواب والشيوخ ٥٣٤ عضوا يمثلون خمسين ولاية بجملة عدد سكان ٣١٠ ملايين نسمة». وحتى لا نبكى على اللبن المسكوب وإن كان لا بد من تفادى هذا المأزق بمجلس متضخم غير قادر بحكم تكوينه العددى وحداثة عدد من النواب والذين لهم كل الاحترام إلا أن دهاليز المتمرسين على المناورة والمشاورة وضعف المحاورة بعامل الوقت الداهم يضطر معها رئيس المجلس أن يحيل غالبية الأعمال إلى لجان يقال إنها متخصصة لتأتى بتقاريرها للمجلس حيث الوقت مداهم والموافقة هى الأسرع. وبعد أن أشرت إلى القليل جدا من مواد الباب الثالث بالدستور المصرى الأخير أى الواجب التطبيق، ومدى مراجعة القوانين وإقرارها من المجلس النيابى المنتخب، فأرى أن القضاء المصرى الشامخ، وهو سلطة مستقلة يطبق قوانين قد تحتاج إلى غربلة دقيقة فى ضوء الدستور، ومنها الحقوق والحريات، فحرية الاعتقاد مطلقة (مادة ٦٤). وحرية الفكر والرأى مكفولة ( محمية )، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر (ماده ٦٥ ). ومع كل هذه الضمانات الدستورية نشاهد أكثر من حالة فى زمن متقارب لأحكام واجبة النفاذ بدعوى الإساءة للدين، وما أسهل من هذا الجرم وتوجيهه إلى أى إنسان ولأى تصرف أو مسلك، فى حين أن الدين لا يحتمى بنا، إذ هو الحامى لنا، والديان الأعظم لا يحتاج إلى الأضعف أن يحامى عنه، وعلى الجانب الآخر فالمخطئ لن يصحح خطأه جلاد أو سجان، بل تغيير الفكر يحتاج إلى إقناع وإشباع، فبالإقناع يفهم صغارنا ويعاود التفكير كبارنا، أما زنزانات السجان وسيفه فلا يقنعان مفكرا مهما بلغ تدنى علمه، فحتى تربيتنا لصغارنا ينصح التربويون بالإقناع وليس الإذلال قولا أو فعلا، إذ يرى علماء النفس العنف بأنه استخدام القوة بقصد الإذلال والمهانة، مما يترك آثارا مؤلمة نفسيا وجسديا أو اجتماعيا أو قانونيا حتى يصل إلى حد الإقماع وليس الاقناع، وبدلا من الإصلاح كما فى جرائم الاعتداء على النفس أو المال واستحقاق العقاب فليس ذلك فى الجانب الفكرى والعقائدى، فهو كامن فى النفس، والخالق وحده هو العالم بفكر البشر ونياتهم. إننا نلوم الجماعات الإرهابية ونقاومها، وقد ندرى أو لا ندرى أن ما وصل إليه اصحاب الفكر العدوانى ليس إلا قناعة منهم ومن معلميهم انهم يدافعون عن دين الله، ولا يعلمون أنهم يناقضون أنفسهم، إذ يقرون بأن الدين للديان، وأنهم يأخذون مكانة المالك فى ملكه، والقادر فى فعله، والديان فى حكمه، ولا يتعلمون من أخطاء الغير، فهم كما يفعل الهندوس بالمسلمين، أو ما يحدث لمسلمين ومسلمين سنة وشيعة، وهكذا فى العالم الكبير الذى لا يمثل فيه عدد معتنقى الديانات الثلاث بترتيب أعدادها المسيحية والإسلام واليهود، أقل من نصف سكان العالم.

ليتنا نتعلم من أخطاء الغير أو ممن سبقنا فى دنيا الحريات،وفى نهاية مقالى هذا أضع أمام قارئى بعضا من كلمات مروة دياب وهى تواجه عنف القوى على الضعيف سواء كان جلادا أو حاكما، لا يؤمن بالقانون قدر اعتماده على معاونيه من البصاصين والمتصنتين «صرخ السلطان جاءت لبلادى أخبار عن شعر أنشد بمكان لا يصاحبنى الأشعار، عن قلم يرفض سلطانى يتكلم باسم الأحرار قل ماذا كنت تقول وتعمل؟ كنت أغنى للحرية للمستقبل، مستقبل كل إنسان، فالحرية ملك يمينى لا ملكا منى ينزعها أو عنها يغريني، فالحرية لفظ تعرفه كل الاديان، وان كان السجن هو المأوى وان كان القبر هو المثوى. وعندما يرد عليها السلطان بالقول سنمزق أشعارك وسنمحو كل الأصداء فتجيبه الشاعرة : إن كان يضايقكم شعرى لا ترموه، فسأكتب غيره، هل أكتب عن زهر حلو يسكن شرفات الرؤساء، أو أكتفى حسن جوار يملأن قصور الحلفاء، قل لى مولاى لمن أكتب؟ فموتى وحياتى وجهان لكن الشعر هو الابقى، وموتى وحياتى وجهان.

وإلى المقال التالى فى ذات الاتجاه.