رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مكتبة الإسكندرية.. وعصابة «المتدكترين»


... فقد كان الرجل يقصد أولئك الذين حصلوا على الدكتوراه لا من أجل العلم، ولكن من أجل الوجاهة الاجتماعية، أو من أجل لقمة العيش، ومن أجل لقمة العيش يهون العلم، بل ويهون الدين أحياناً.

كنت أجلس على منصة قاعة من قاعات مكتبة الإسكندرية العظيمة، حيث تم ترتيب مؤتمر يدور موضوعه عن الجمال فى الإسلام، وياله من موضوع عظيم، فكرت فيه ورتبت أمره الدكتوره شيماء الدمرداش العقالى، وجدير بالذكر أن الدكتورة شيماء ليست من المتدكترين، ولكنها صاحبة علم حقيقى مخرت من أجله عباب البحار وسافرت بسببه بلاد العالم وأصبحت بسبب التنوع المعرفى صاحبة نظرة كلية للأشياء شديدة الاتساع، وكان من حسن حظى أن تم دعوتى لإلقاء محاضرة قصيرة لا تتجاوز ثلث الساعة فى اليوم الأول للمؤتمر، فاخترت موضوع «الصور الجمالية فى الدعوة للإسلام» كى أتحدث بخصوصه للحاضرين، ولكن الله شاء ولا راد لمشيئته أن أكون رئيساً للجلسة الأولى التى تضم محاضرتى ومحاضرات أخوة متدكترين، حيث كان من المقدر أن تكون أستاذتنا الكبيرة الدكتورة آمنة نصير رئيساً لهذه الجلسة ولكن شئونها البرلمانية غيبتها عن الحضور فوقعت الرئاسة فوق كاهلى الذى أثقلته التجارب، فلنستعن بالله على هذا الشقاء.ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد كنت أتمنى أن أجلس وسط علماء حقيقيين يقدمون للأمة مشروعاً حضارياً منبثقاً من الجمال فى الإسلام، ولكننى للأسف الشديد وقعت فى براثن عُصبة من المتدكترين، كل تخصصاتهم محصورة فى الإسلامية! فهذا فى الحضارة الإسلامية، وهذه فى الفلسفة الإسلامية، وذا فى التاريخ الإسلامي، وحضرته فى العمارة الإسلامية، وحضرتها فى الآثار الإسلامية وهلم جرا والله ولى الصابرين. وكانت واحدة من المتدكترات قد اختارت موضوعاً تتحدث فيه عن «الفلاسفة الشعراء والشعراء الفلاسفة» وهى من المتخصصات حسبما جاء فى الأوراق فى الفلسفة الإسلامية، وآخر اختار موضوعاً فى تشويش الدلالات، فقلت فى نفسى أبشر بطول سلامة أيها القبح الذى اقتحم حياتنا، وحينما بدأت أعمال المؤتمر تحدثتُ لدقائق فى مفهوم ينبغى أن يكون مفهوماً، إذ تناولت مسألة «الإسلامية» هذه وقلت من ضمن ما قلت إن كلمة إسلامى وإسلامية خرجت إلى الوجود فى نهاية القرن التاسع عشر مع الانحطاط الذى وقعت فيه الأمة، فتم تحريف الكثير من المصطلحات، فأصبحت المدارس الفقهية التى تنسب لأصحابها، فقهاً إسلامياً وماهى كذلك بل كانت دائماً تنسب لأصحابها، وما كانت الخلافة إسلامية فى مصطلحات القدماء بل كانت راشدة وأموية وعباسية وعثمانية ولم تقترن بها الإسلامية إلا مؤخراً لتقديس الخلفاء والخلافة، ثم ما هذا الخلط فى المفاهيم عندما تنسب حضارة شعب من الشعوب أو أمة من الأمم إلى دينهم؟! نعم كانت هناك حضارة ولكن فلنطلق عليها «الحضارة العربية» نسبة إلى النقطة الجغرافية التى انطلقت منها، أو تكن حضارة المسلمين نسبة إلى الأغلبية التى عاشت على امتداد هذه الحضارة، ولكن أن تكون إسلامية نسبة إلى الإسلام فهذا تجريف للمعانى الصحيحة، خاصة أن كلمة إسلامى لم ترد لا فى قرآن ولا فى سنة، ولا حتى فى تاريخ هذه الأمة. ولم تدخل علينا كما قلت إلا فى نهاية القرن التاسع عشر مع وهدة هذه الأمة ومع بحث العثمانيين على طريقة يتحصن بها حكمهم، وليس هناك أفضل من أن يُنسب حكمهم إلى الإسلام مباشرة، وقد راق هذا المصطلح لآخرين فقالوا عن فقه الأوائل إنه «الفقه الإسلامي» وقالوا عن تاريخ هذه الأمة «التاريخ الإسلامى» وما هو بتاريخ للإسلام على الإطلاق إذ كان تاريخ الإسلام هو فقط فى فترة بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فقد أصبح هذا التاريخ لا علاقة له بالإسلام ولكنه فقط كان تاريخاً للمسلمين، وإعطاء وصف الإسلامى لهذه التجارب البشرية إنما يعطيها قداسة فى عيون العامة، ونظراً لأننى أتحدث من واقع خبرتى التى اكتسبتها من أرض التجربة فضلاً عن إيمانى العميق بما ينبغى أن يكون فقد أفضت فى هذا الأمر وطلبت من أصحاب هذه التخصصات الاجتهاد من أجل تصحيح مصطلحاتهم.

وقلت تأكيداً لأفكارى: ألم يقل الله سبحانه وتعالى «هو سماكم المسلمين من قبل» لم يقل هو سماكم الإسلاميين! وقال أيضاً: «ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين» وغير ذلك من آيات القرآن الكريم، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى أن ننسب أفكارنا وتجاربنا للإسلام مباشرة، أو لله رب العالمين فقال تعالى: «فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله». وعند هذا الحد يا مولانا انقلبت الدنيا رأساً على عقب، فأنا أجلس وسط أصحاب الصنعة، الذين ينسبون علومهم للإسلام، هذه فلسفة إسلامية، وذاك عمارة إسلامية، وحيزبونة شمطاء تخصص فلسفة إسلامية لا علم لها إلا فى الردح ولف الملاية، ولا أخفى عليك سراً أن القاعة لم يكن بها جمهور حقيقي، ولكن كل إسلامى اصطحب معه واحداً أو اثنين من كليته أو قسمه، وكلهم للانتصار لصنعتهم هاجوا وماجوا، وتكأكأوا عليَّ تكأكأهم على ذى جنة، فلم يكنى إلا أن قلت لهم «افرنقعوا» يا أصحاب الصنعة، يا من تبحثون عن أرزاقكم، أنتم كهؤلاء المشركين الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم، كما ورد فى القرآن الكريم «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا» فقد أقاموا دنياهم على بيع الأصنام، فهل يتنازلون الآن دنياهم من أجل الدين؟! صدق الله سبحانه حين قال «فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون»