رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من رواية ومضة عشق لـ "محمد سلامة"

جريدة الدستور

ظللنا كذلك حتَّى لاح الفجر المخضَّب بدماء ليلةٍ قتيلة في الأفق المسجيِّ أمامنا، وشقشقت العصافير على قمم الأشجار الكثيفة المجاورة لسور المحطَّة، والتي كادت توازي في ارتفاعها غُرفة الناظر. بينما انتابتني قشعريرةٌ باردةٌ؛ بمجرَّد أن وقفتُ على بابِ البُرج.. *** شعرتُ بداخلي يُخترق بتلك الطعنة النجلاء؛ التي عاجلتني بها من جانبي، بعد أن حَفَرت أظافرها على ظهري خُطوطًا دامية متعرِّجة – وكأنَّها نقوشٌ عجيبةٌ لتعويذةٍ غامضةٍ – كنت ناظرها في ألم، وقد انتبهت حواسي، بعد أن كنت طائرًا فوق السحاب؛ مُفترشًا جسدها كالبساط من تحتي.. *** كنَّنا فوجئنا فى هذا اليوم بصوت حوافر الجواد العجوز تهزُّ الأرض هزًا، قبل أن يحدث ذلك التصادم المريع، الذي انتفضت له أجسادنا، وسقطت له قلوبنا بين صدورنا، فقد صدم الجواد الهارب تلك المرأة العجوز صدمةً مزلزلةً، عندما وجدها أمامه بمنتصف الشارع، بينما يعدو بكامل سرعته؛ ليلوذ بطريق الخلاص.. *** كان (كليَّة) يعطيه من لفافاته، المُتخمة بأوراق "البانجو" دون أَنَفةٍ؛ مُتلذذًا بدعاباته السمجة، المثيرة للغثيان، من وجهة نظري الشخصيَّة؛ فقد كنت الوحيد الذي آنفته في استكبارٍ وعلوٍ؛ فصار يرمقني بنظرات تقطر سُمًا وتمتلىء حقدًا، ولو كانت النظرات تقتل؛ لحوَّلت جسدي إلى مصفاةٍ من فرط مقتٍ.. *** ثبَّتُ ناظريَّ على جسدها البديع، وتمنيتُ – في الخفاء – أن تكون لي.. ولي وحدي، أخذت أعبث في جيوبي بحثًا عن منظاري الطبِّي؛ طلبًا لرؤية أوضح دون جدوى. *** لطمت وجهها كثيرًا بحُرقةٍ وغِلٍ وراحت تدقُّ رأسها مِرارًا في الحائط المجاور؛ حتَّى تورَّم وانفتح، وراح ينزُّ بالدم؛ الذي سال من جبينها في خيوطٍ عديدةٍ؛ أغرقت وجهها تمامًا،كنت أظنُّها تفعل ذلك جزعًا مما حاقَ بى، لم أكن أدري – وقتها – السبب الحقيقى لما تعانيه، والتغيُّر البالغ الذي اعتراها، وأخذ يُعمِل أثره في ملامحها الرقيقة فباتت حُطامًا. *** صعدت درجات السلم قفزًا؛ كل درجتين أو ثلاثة في قفزة واحدة، كان داخلي يضطرب، وقلبي يدقُّ في قوة وعنف؛ وكأنَّه على وشك الوثوب من حلقي، زادت شدة انفعالي، وسرى في شراييني مجرى الدم، بينما راحت ركبتاي ترتجفان تحتَّي؛ من فرط الرغبة، حتَّى أصبحت في مواجهة الباب الذي واربته لي، دخلت في هدوء حذِر، أغلقت الباب خلفي في رفقٍ راجف.. *** نفس الشعور المتوهِّج بالقشعريرة الذي ينتابك؛ عندما تأخذ مركب لعرض البحر، وقتها تشعر بأن الماء يحاصرك بأمواجه، في حين تظلِّلك السماء كالقبَّة، وتبدو حولك من كل اتجاه؛ وكأنَّ البحر والسماء صارا الدنيا بأكملها، وقتها قد تطفُر من عينيك دمعةً حزينةً لا يشاركك فيها أحدٌ، أو تمارس العشق مع رفيقة رحلتك، دونما تطفل من ناظرٍ؛ ليس سوى الله ينظرك بعين الرحمة أو عين الغضب، والماء والسماء. *** وسُرعان ما استدار بالسيَّارة، وعاد من حيث أتى، بعينين مفتوحتين عن آخرهما، وانطلق ينهب الطريق نهبًا كالسهم المارق؛ بحثًا عن ضالته المفقودة، بينما عيناه تدوران مع دوران الطريق المنحنى أمامه والمتلوِّى كثعبان، وقد راحت ترصده في دقة يحدوها أملاً في أن تلقى ضالته، حتَّى هبطت الشمس وشارفت المغيب. *** بعد أن أنهت دراستها الجامعيَّة، انقطعت كلَّ أخبارها؛ حتَّى وسيلة الاتصال الوحيدة لم تعد مُتاحة، منذ سنواتٍ.. التقيت بعض صديقاتها المقرَّبات، وعندما سألتهن عنها – في لهفة – أبلغنني والحزن (الكاذب) يرتسم على وجوههن، أنها قد ماتت في حادث، فانفطر قلبي حُزنًا وكمدًا *** كانت تقوم على خدمة زوجها المنكسر، بينما تسترق النظرات الدامعة إليه، وقد ذبل وجهه وطالت لحيته، وصار إلى الموت أقرب منه إلى حياةٍ بائسة يحياها، كان ينظر إلى طفليه نظرةً ذاهلةً؛ تلتمع فيها الحسرة؛ بعد أن فقدت بريق الأمل. باعت آخر ما تبقَّى من حليٍّ، بينما زوجها يذوي كآخر ومضة في شمعة تحتضر، صار كعجينة لينة، لا يكاد يقف؛ حتَّى ينحني في خنوع، بينما انتابته رعشة مستديمة، وراح يفقد وعيه لفتراتٍ تطول.