رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغيرات الدولية.. وتفجيرات باريس


تشير تفجيرات باريس إلى بروز كثير من الحقائق التى قد تؤدى إلى إحداث تحولات جذرية فى المعادلتين الدولية والإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط، عسى ألا تكون المنطقة العربية الأكثر تأثراً بهذه التحولات، إذ تشير الحقيقة الأولى إلى تمدد نفوذ وتنامى مقدرات تنظيم داعش، إلى الحد الذى أصبحت فيه الدول العـظمى والكبرى ليست بمنأى أو بمعـزل عن عملياته النوعـية، خاصة أن هذه التفجيرات جاءت بعـد حادثة الطائرة الروسية، وقيام رئيس الوزراء البريطانى وتابعه الرئيس الأكثر فشلاً فى إدارة أقوى دولة فى العالم، باستباق التحقيق وأعـلنا أن انفجار الطائرة الروسية قد نتج عن عمل إرهابى، وأعلنت روسيا مؤخراً أن الانفجار نتج عن تفجير قنبلة وُضعـت تحت أحد كراسى المقصورة.

وتشير الحقيقة الثانية إلى أن حجم وتنوع أهداف وتعـدد أماكن هذه التفجيرات، وكثافة الخسائر الناتجة عـنها، تفوق كثيراً مقدرات وإمكانات داعش، الأمر الذى يقود إلى صحة رأى أحد فريقين، ففريق يرى أن التنظيم قد نجح فى ضم عناصر استخبارية وعناصر عسكرية لها خبرات تراكمية كبيرة، ذات كفاءة عالية فى تخطيط وتنفيذ وإدارة مثل هذه العـمليات وغالباً ما تكون هذه العناصر الاستخبارية والعسكرية من الدول الأوروبية، أما الفريق الآخر فقد ذهب أبعـد من ذلك كثيراً، حيث يرى هذا الفريقأن دولاً لديها مثل هذه العـناصر هى التى قامت بالتخطيط والإدارة لتحقيق أهدافها وصيانة مصالحها، وأن فرنسا ربما تكون مستهدفة من قوى عظمى نتيجة لاستقلالية قرارها عنها خاصة فى بيع أسلحة متقدمة لدول لا ترغـب هذه القوى فى أن تمتلك مثل هذه الأسلحة المتطورة.

وتتمثل أخطار هذا المتغـير فى تهديدين داهـمين على المنطقة العربية، الأول هو أن تُصبح المنطقة منطقة التحام Cohesion Zone، عـندما تُؤدى تفاعلات هذا المتغـيـر إلى إحداث حالة من الوفاق بين القوى العظمى والكبرى إلى حد التنسيق والتعاون للقضاء على داعش، وقد ينتج عنها تقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ بين هذه القوى، حيث تُشير تعليمات الرئيس بوتين إلى قائد الإسطول الروسى فى البحر المتوسط، بأهمية إحداث التعاون الوثيق بين القوة البحرية الروسية، وبين القوة البحرية الفرنسية الآتية على متن حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديجول» كما يُشير تصريح وزير الخارجية الأمريكى إلى أن المفاوضات بين النظام السورى والمعارضة المعـتدلة ستتم خلال أسابيع إلى التقارب والوفاق غـير المتوقع بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن الأزمة السورية.

أما الخطر الثانى فهو أن تٌصبح المنطقة العـربية منطقة ارتطام Crush Zone عندما تؤدى تفاعلات هذا المتغـيـر إلى حالة اصطدام بين هذه القوى فى حرب لا تُبقى ولا تـذر، نتيجة لاختلاف وتعارض وتشابك مصالحها فى المنطقة، خاصة إذا صممت الولايات المتحدة على إقصاء الأسد من معادلة تسوية الأزمة السورية، إذ يعـنى ذلك حرمان روسيا من قاعدتى طرطوس واللاذقـية، بل حرمانها من التواجد فى مياه المتوسط الدافئة، وهو ما تشير إليه تفاعلات التحركات الأمريكية فى منطقة البحر الأسود، وتأجيج الأزمة الأوكرانية وتغـليظ العـقوبات الاقتصادية على روسيا، وضم معـظم دول حلف وارسو السابق إلى الاتحاد الأوروبى وإلى حلف الناتو، إذ يُشير الواقع إلى أن الأهمية الجيوسياسية للبحر الأسود تكاد تكون معـدومة بالنسبة للولايات المتحدة والقوى البحرية الأخرى، إلا أنه يُعـتبر ذا أهمية بالغة بالنسبة لروسيا، حيث يُعـتبر الطريق البحري الوحيد لها للنفاذ إلى بحر مرمرة ومن ثم إلى بحر إيجة وصولاً إلى المياه الدافئة للبحر المتوسط، ثم إلى محيطات العالم، كما يُعـتبر منطقة التمركز الوحيدة للأسطول البحرى الروسى من خلال القاعـدة البحرية الوحيدة التى احتفظت بها روسيا بمقتضى المعاهدة الموقعة من روسيا وأوكرانيا وتم مدَها حتى عام 2047، كما أن مياه هذا البحر هى المياه الوحيدة فى هذه المنطقة التى لا تتجمد معظم أيام السنة، وهو ما يُوضح لنا هدف الولايات المتحدة من قيام أوكرانيا باستعادة شبه الجزيرة، وهو حرمان روسيا من منطقة تمركز أسطولها الوحيدة، ومن طريقها البحرى الوحيد للوصول إلى المياه الدافئة.

وكذلك فعـلت الولايات المتحدة مع الصين، حيث قامت بتكثيف تواجدها فى منطقة بحر الصين الجنوبى وتحالفت مع كثير من دوله، خاصة تلك التى تتحكم فى مضيق ملقا الذى يقع بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة، وأجرت معها تدريبات مشتركة للسيطرة على المضيق الذى يُعـتبر المنفذ الوحيد للصين إلى المحيط الهندى ومن ثم إلى بحار ومحيطات العالم، فهل تتحمل المنطقة العربية هذه الأخطار؟ هذا ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله.