رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القيادة المصرية.. ونبوءة جمال حمدان


يثبت التاريخ دائمًا أن أصحاب الأقلام التى تحمل هموم وقضايا الوطن والإنسان، غالبًا ما تكون كتاباتهم بمثابة النبوءة التى تتحقق ولو بعد حين، ويحققها من آمنوا بفكرهم وتراثهم الذى تركوه للأجيال، وهذا ما حدث أخيرًا مع نبوءة العالم المصرى د. جمال حمدان، الذى شاءت الأقدار أن يكون محل ميلاده فى قرية تسمى «ناى» بمحافظة القليوبية وأن يكون لهذه التسمية عمقًا فى أن تجعله بالفعل «ناى» رائعًا يعزف على أنغام أحلام المصريين فى الخروج من الوادى الضيق على ضفتى النيل العظيم إلى آفاق الصحراء ليستشرف المستقبل ويضع مخطوطه لكتاب «قناة السويس.. نبض مصر» الذى طالب فيه بضرورة توسعة القناة لكونها نبض مصر ومركز النقل الأول فى أوروبا، ولأن التوسع هو المصل المضاد لوباء الناقلات العملاقة، وهو بهذا أراد الضرب تحت الحزام لمحاولات بعض الكيانات التى نشأت كالبثور فوق وجه الخريطة العربية وسد المنافذ التى يحاولون بها حفر قنوات أخرى تعمل على «شلل» قناتنا المصرية التى شهدت دراما الدم والعرق أثنا عملية الحفر للمجرى الرئيس الأول، مستندًا فى دراسته إلى كتابه: «فضيحة أكاذيب الصهيونية» التى تريد أن تقفز على منجزات المشرق العربى لاختطافها.

فقام بالتنبيه مبكرًا إلى أهمية الموقع الاستراتيجى للقناة ولاستكمال تحقيق التكامل كما رآه فى كتابه العظيم «شخصية مصر». لذا كانت لديه نظرة ثاقبة على استشراف المستقبل بعيون وفكر واعٍ لحقائق التاريخ برؤية متميزة للحاضر، ففى عقد الستينيات من القرن الماضى، وبينما الاتحاد السوفييتى فى أوج عظمته ومجده أدرك جمال حمدان ببصيرته الثاقبة أن تفكك الكتلة الشرقية آت لا محالة، فإذا الذى يتنبأ به يتحقق بعد أكثر من عشرين عامًا من نبوءته تلك، وجاء الزلزال الذى هز كيان أوروبا الشرقية.. بل العالم أجمع. ورغم أن ما كتبه د. جمال حمدان لم ينل الاهتمام المستحق إلا بعد وفاته، فقد صبَِّ المهتمون بفكره جهودهم على إظهارعبقريته الجغرافية، متجاهلين ألمع ما فى أفكاره، وهى قدرته الفذة على التفكير الاستراتيجى العميق، حيث كانت الجغرافيا مدخلاً فقط لرؤية متكاملة للمقومات التى يتطلبها كل تكوين جغرافى وبشرى وحضارى، فعكف على دراسة عوامل القوة والضعف فى كل التكوينات التى صنعتها الجغرافية العبقرية فى «الطبوغرافيا» بطول مصر وعرضها، وعمل على تحليل الأحداث الآنية أو الظاهرة الجزئية ليضعها فى سياق أعم وأشمل ورأى بعبقربته أبعاد المستقبل أيضاً.

وصحيح أنه قد صدر العديد من الكتب والمقالات والدراسات حول قناة السويس وأهميتها الاستراتيجية للواقع المصرى وجغرافيته، وظهر إلى الوجود الكثير من الكتب المدعمة بالوثائق التاريخية فى أحقية مصر وسيادتها على القناة منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب «وثائق الحلم المصرى» الصادر عن دار الكتب والوثائق الذى جمع بين دفتيه مجموعة وثائق نادرة باللغات العربية والتركية والفرنسية والألمانية، متضمنا وثيقة القسطنطينية الموقعة فى أكتوبر 1888 وتنص على حرية الملاحة فى القناة والاعتراف بحق السيادة عليها، وكتاب «افتتاح قناة السويس.. رحلة الملوك» الذى تم إعداده بتكليف من الخديو إسماعيل إلى الرسام الفرنسى «إدوارد ريو» ليهديه للملوك وعظماء المدعوين الذين حضروا حفل الافتتاح، آنذاك، ولتوثيق حدث فريد يحتل مكانة مرموقة فى ذاكرة العالم، وبرغم كل تلك الإصدارات لكنها كانت تدور فى معظمها عن حق الملكية والاستغلال.

وظل كتاب «جمال حمدان» هو الانفراد الوحيد الذى يحمل الحلم جنينًا فى باطن الكتاب حتى خرج إلى الحياة وعشنا لحظات تحقيقه بالتوجه إلى العمل على مد شرايين قناتنا شمالاً وجنوبًا ليعم الرخاء، ولتأخذ طوابير الشباب والعمالة طريقها إلى صنع لوحة المستقبل بريشة الأمل فى الغد الذى سيجىء بكل الخير للمصرى الذى ضخ الدماء فى عروق الأرض قبل أن تعلن المياه عن جريانها بطول وادينا الحبيب وعرضه .والحق أقول ـ بلا مزايدة أو أدنى التفات لكلمات المثبطين وأعداء الوطن ـ إن القيادة المصرية حين استرشدت بما أورده جمال حمدان فى كتاباته بعد أكثر من ثمانية وثلاثين عامًا لتضع فى الحسبان كتابه المشار إليه فى العام 1976 بقلمه الوطنى ليهنأ بما تركه لنا من تراث لم يغب عن أعين المخلصين وليعلم أنه لم يعش حياته يحرث فى البحر. وبهذا أثبتت قيادتنا الواعية أن كل خطوة يكسبها «العلم والدراسات الجادة» يخسرها أعداء التقدم ودعاة التخلف خدمة لأهداف لاتخفى على الوطنيين المصريين الشرفاء.

أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون