رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 23 يوليو 1952: "حدوتة مصرية"

جريدة الدستور

يوم استثنائي بكل المقاييس، قلب الموازين داخل ربوع مصر المحروسة. حولها من ملكية كما اعتادها مواطنوها لقرون طويلة إلي جمهورية مصر العربية، 23يوليو اليوم الذي بارك الشعب أحداثه ليحوله من انقلاب عسكري إلي ثورة، قام بها مجموعة من الضباط الجيش المصري، تحت اسم حركة الضباط الأحرار تحت قيادة اللواء محمد نجيب.

قامت الثورة لأسباب عديدة، أولها انعدام العدالة الاجتماعية بين أفراد الشعب، وسوء الحالة الاقتصادية للدولة، والظلم السائد الذي كان يزيد من معاناة الشعب المصري يوم تلو الآخر، وإغلاق المدارس البحرية والحربية، بالإضافة إلى تقليص حجم وحدات الجيش الوطني بعد فرض الحماية البريطانية على مصر وإرسال معظم القوات إلى السودان من أجل المساهمة في إخماد ثورة المهدي.

وفي الذكري الـ 63 لثورة 23 يوليو 1952، نرصد تفاصيل اليوم، وكيف تم الاستعداد له وما عقبه، والتي قامت على مبادئ 6 وهي القضاء على الإقطاع، والاستعمار وسيطرة رأس المال، وبناء حياة ديمقراطية سليمة، وبناء جيش وطني، وتميزت هذه الثورة أنها كانت ثورة بيضاء لم ترق فيها الدماء، وقدمت وجوهًا وطنية شابة لواجهة الحكم في مصر.

التمهيد لذلك اليوم، كان مع ظهور تنظيم الضباط الأحرار، بعد الهزيمة في حرب فلسطين وقضية الأسلحة الفاسدة، وكذلك بحسب ما قاله اللواء محمد نجيب في مذكراته،" أن انتخابات نادي الضباط كانت هي الخطوة الفعالة الأولي في طريق ثورة يوليو"، والتي فاز فيها برئاسة مجلس إدارة النادي، وكانت بمثابة اختبار حقيقي لشعبية اللواء محمد نجيب داخل الجيش، أحس الضباط بمدي قوتهم.

وفي يوم 19 يوليو 1952، تقرر أن تتم الحركة ليلة 21، 22 من الشهر ذاته، ولما كان الوقت ضيقًا للغاية لوضع الخطة المناسبة، وحشد كل "الضباط الأحرار"، وتعذُّر تجهيز كافة الترتيبات، تقرَّر تأجيل الموعد يومًا واحد.

وفي الساعة التاسعة والنصف من مساء ليلة 23 يوليو، انكشف سر الثورة، وكانت هناك ترتيبات للقبض علي الضباط الأحرار، ولكن علم بذلك محمد نجيب بإبلاغ يوسف صديق بالتحرك قبل ساعة الصفر بساعة، وبالفعل تحرك يوسف صديق ونجح في اقتحام مركز القيادة.. ولولا هذا التحرك لفشلت الثورة ولقضي عليها قبل أن تبدأ.

وانقسمت خطة التحرك إلي ثلاث مراحل، الأولي تمثلت في السيطرة على القوات المسلحة، والاستيلاء علي مبنى قيادة الجيش الموالية للملك، واعتقال بعض كبار ضباط الجيش، والطيران، وقادة الأسلحة المختلفة، والسيطرة علي مطارات ألماظة، والمسئولين عن هذه المرحلة كانوا حسين الشافعي، خالد محيي الدين، ثروت عكاشة، كمال الدين حسين، عبد المنعم أمين، حسن إبراهيم وعبد اللطيف بغدادي.

وإنزال قوات إلى الشوارع للسيطرة على عدد من المواقع المدنية مثل الإذاعة، وقصر عابدين، كانت هذه هي الخطة الثانية ، أما الثالثة فشملت علي التحرُّك لعزل الملك ومحاصرته، ومنْعه من الاتصال بالقوات المسلحة، أو القوات البريطانية.

وبدأت المدفعية في تنفيذ مهامها بألماظة، وقد تم وضع قوات في مداخل المنطقة العسكرية للتحكم في الداخلين إليها، وقاد هذه القوات الرائد كمال الدين حسين، واليوزباشي (النقيب) خالد فوزي، واليوزباشي أحمد كامل رئيس المخابرات المصرية فيما بعد، واليوزباشي علي فوزي يونس.

استعد سلاح الفرسان تحت قيادة ثلاثة من ضباطه الأحرار، وخرجت المدرعات والعربات المصفحة، بعد أن اعتقلوا قائد الفرقة المدرعة الأميرالاي حسين حشمت، ثم تولَّى خالد محيي الدين قيادة المدرعات والمصفحات التي رابطت عند مداخل مصر الجديدة "سينما روكسي".
كما نجحوا كذلك في السيطرة علي سماء مصر في الساعة السادسة من صباح يوم 23 يوليو، حيث حلَّقت في الجو الطائرات الحربية التابعة للضباط الأحرار، وتبع ذلك السيطرة علي الإذاعة، وتولى هذه المسؤولية اليوزباشي أحمد المصري ومعه سيارات مدرعة؛ حيث وصل إلى الإذاعة في تمام الساعة الرابعة والربع صباحًا، وكانت تحيط بالإذاعة قوات من البوليس، واستطاع أحمد المصري إقناعهم بأنه مُوفَد من السراي، وتمت السيطرة على الإذاعة، وتعيين نقاط حراسة في المنطقة المحيطة بها في الساعة الخامسة والنصف صباحًا.
وأصدرت الثورة بيانها الأول بصوت السادات والذي جاء فيه: "اجتازت مصر فترة عصبية في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش وتولى أمرهم إما جاهل أو خائن أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولي أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم ولابد أن مصر كلها ستلقي هذا الخبر بالابتهاج والترحيب".
"أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين، فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيُطلق سراحهم في الوقت المناسب، وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور، مجرَّدًا من أية غاية، وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يَسمح لأحد من الخونة بأن يَلجأ لأعمال التخريب أو العنف؛ لأن هذا ليس في صالح مصر، وإن أي عمل من هذا القبيل سيُقابل بشدة لم يسبق لها مثيل، وسيَلقى فاعله جزاء الخائن في الحال، وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاونًا مع البوليس، وإني أُطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسئولاً عنهم، والله ولي التوفيق"
بعد أن أذاع السادات البيان، قدَّم نجيب الهلالي رئيس الوزراء وقتئذ استقالته، ونصح الملك فاروق بقَبول مطالب "الضباط الأحرار"، وتم تكليف علي ماهر باشا لتشكيل الوزارة الجديدة بتكليف من مجلس قيادة الثورة كلَّفه بتشكيل الوزارة، والسر وراء تكليفه بتشكيل مجلس الوزراء، بدلاً من تشكيله من العسكريين، هو تطهير الحياة السياسية، وإقصاء الملك والإنجليز.
وتم تسليم الملك إنذار موجَّه من مجلس قيادة الثورة وهو بخط يد السادات، وطلبوا فيه من الملك مغادرة الأراضي المصرية، وكان نصه " من الفريق أركان حرب محمد نجيب باسم ضباط الجيش ورجاله إلى جلالة الملك فاروق، إنه نظرًا لما لاقته البلاد في العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرُّفكم، وعبثكم بالدستور، وامتهانكم لإرادة الشعب؛ حتى أصبح كل فرد من أفراده لا يطمئنُّ على حياته أو ماله أو كرامته، لقد ساءت سُمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم في هذا المسلك.
"لقد تجلَّت آية ذلك في حرب فلسطين وما تَبِعها من فضائح الأسلحة الفاسدة، وما ترتب عليها؛ ولذلك فوَّضني الجيش الممثِّل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم الأمير أحمد فؤاد، على أن يتمَّ هذا في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر".
وبالفعل غادرت الباخرة "المحروسة" التي تقل الملك فاروق الميناء في الساعة السادسة تمامًا من مساء يوم 26 يوليو 1952، والتي شقَّت طريقها إلى ميناء نابولي بإيطاليا، على أن يعود اليخت إلى مصر بمجرد أن ينتهي من مهمته.
وعلى أثر إذاعة البيان الخاص بتنازل فاروق عن العرش، خرَج بعض ضباط الجيش في سيارات مزوَّدة بمكبرات الصوت، وأخذوا يطوفون بأنحاء الإسكندرية والقاهرة، وكانت الإسكندرية آنذاك محتشدةً بالجماهير، الجميع يقابل موكب محمد نجيب بحماس شديد وتصفيق حاد، حيث رأي في هذه الثورة الوسيلة الحقيقية للتغيير تحريره من الظلم والأوضاع الفاسدة الذي دام لعقود كثيرة متتالية.