رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الـدولية والإقليمية وتأثيرها على المنظور الأمريكى «22»


أوضحت فى المقالات السابقة مدى الحاجة الملحة لبناء استراتيجية عربية موحدة، حيث يبدو العالم العـربى بدونها وكأنه مجموعة متناثرة من الدول والشعوب تتخطفها مشروعات القوى العالمية والإقليمية، الأمر الذى يتطلب إعـداد دراسة دقيقة عن الموقف الاستراتيجى لاستخلاص محددات ومرتكزات بنائها.

وتناولت التقارب الأمريكى الإيرانى أولا باعـتباره الأكثر تأثيراً على المعادلة الاسترتيجية العـربية فى الوقت الراهن، تناولت نشأة وارتقاء الارتباط الاستراتيجى بين الولايات المتحدة وإسرائيل ثانيا باعـتباره المحدد الأخطر تأثيراً، وأتناول اليوم موقف تركيا من المعادلة العـربية كمحدد ثالث، وسأتناول تأثيره على بناء الاستراتيجية المقترحة من زاويتين، الأولى هى موقع ودور تركيا فى الاستراتيجية الأمريكية والأطلسية، والثانية هى مشروع «العثمانيون الجدد».

وينبغى توضيح الاعـتبارات الرئيسية التى تجعـل من تركيا دولة ذات أهمية استراتيجية خاصة فى المنظورين الغربى والأمريكى، حتى يُمكن إبراز موقعها ودورها فى الاستراتيجيتين الأمريكية والأطلسية، إذ يأتى اتساق معـطياتها الجيوستراتيجية والـديموغرافية فى مقدمة هذه الاعـتبارات، حيث يلعـب موقعـها الفريـد والتفاعـل السليم بين قوتها البشرية ومساحة إقليمها دوراً مهماً فى توازن مقدراتها الاقتصادية والعـسكرية والاجتماعية، الأمرالذى جعلها محط أنظار أغـلب المخططات التى تتعـلق ببناء التحالفات والتحالفات المضادة والتوازنات والتوازنات المضادة للقوى العـظمى والكبرى التى نشأت على مر تاريخ تركيا، فهى الدولة الوحيدة التى تربط قارتى آسيا وأوروبا، وتطل على البحر المتوسط والبحر الإسود وبحر إيجة وتتحكم فى بحر مرمرة، وبذلك يلعـب موقعها دوراً مهماً فى صراع القوى البحرية «الولايات المتحدة والغرب» والقوى البرية «الاتحاد السوفييتى السابق والاتحاد الروسى حالياً»، فما كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم فى مخبره إلاَ تجسيداً لهذا الصراع، فشبه الجزيرة تتحكم فى البحر الأسود الذى يُصبح لا قيمة له إذا تحكمت القوى البحرية فى بحر مرمرة المحصور بين مضيقى البوسفور والدردنيل فى الأراضى التركية، ويُعـتبر بحر مرمرة هوالمنفذ الوحيد لروسيا للوصول للمياه الدافئة فى البحر المتوسط ومن ثم إلى محيطات العالم، ولذلك اضطر الغـرب والولايات المتحدة لأن ترتبط تركيا ارتباطاً عـضـويـاً بالاستراتيجية الأطلسية كدولة إسلامية وحـيـدة، أما من حيث المظهر فكان ضم روسيا لشبه الجزيرة بناء على استفتاء شعـبى، حيث كانت شبه الجزيرة جـزءاً أصيلاً من أراضيها قام خروشوف ذو الأصل الأوكرانى بضمّها إلى أوكرانيا «السوفيتية» عام 1954.

كما يأتى اتساق عـنصرى الكتلة الحيوية لتركيا فى مقدمة الاعتبارات، فتركيا تُعـتبر من أكثر دول الشرق الأوسط تقدماً فى مؤشر الاستقرار السياسى، إذ تعـتبر من الدول شديدة التجانس حيث ينحدر شعـبها من أصل واحد ويدين 98% منه بالإسلام «المذهـب السنى» فى حين تدين أقلية لا تتعـدى2% بالدين المسيحى واليهودى، وهى بذلك تعـتبر من أقل الدول تعـرضاً للأزمات العـرقـية والدينية بحكم التكامل العرقى والدينى والعـقائدى، ويلعـب هذا البُعـد دوراً مهماً فى تعـظيم إرادتها القومية، فبالرغم من مظاهر العـلمانية المفرطة التى فرضها أتاتورك دون تعـقل أو انضباط، إلا أن التوجه الإسلامى للدولة بدأ فى التصاعد مرة أخرى، فاعـتلت الأحزاب السياسية ذات التوجه الإسلامى قمة السلطة، واعتلى حزب العـدالة والتنمية السلطة منذ عام 2002 وزعم أنه هو الذى أعاد الإسلام إلى تركيا، وقدم نفسه للولايات المتحدة على أنه حزب ذو رؤية إسلامية وسطية، وبالتالى يُصبح الوكيل المناسب الذى يمكنها الاعتماد عليه فى السيطرة على الدول العربية التى تعتنق المذهب السنى بالوكالة عـنها، بعـد تفتيت الدول العربية إلى كنتونات متناحرة وتقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ فى إطار هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير وفقاً للمنظور الأمريكى، وتظاهرت الولايات المتحدة بتصديق ادعاءات العثمانيين الجدد، وهى تعلم يقينا أن عدنان مندريس هو الذى أعاد تركيا إلى الإسلام عندما كان مرشحاً عن الحزب الديمقراطى عام 1950، حيث تضمنت حملته الانتخابية أربعة برامج تتعـلق جميعها بعـودة تركيا إلى الدين الإسلامى، الأول عودة الأذان باللغة العربية، والثانى السماح للأتراك بالحج، والثالث العـودة إلى تدريس مادة الدين الإسلامى فى المدارس، والأخير هو عدم تدخل الدولة فى لباس المرأة ومنحها حريتها فى ارتداء الحجاب أو خلعه، وتوقعـت جميع الدراسات الأمريكية السقوط المدوى لمندريس بسبب برنامجه الانتخابى، إلا أنه فاز بـ 318 مقعـداً، فى مقابل 32 مقعـداً لحزب أتاتورك، ثم فاز فى الانتخابات التالية بالأغلبية المطلقة أيضاً عام 1954، بينما تراجع حزب أتاتورك وحصل على 24 مقعـداً، فقررت القوى المعادية للإسلام «الولايات المتحدة الصهيونية العالمية» ضرورة إبعاده بعـد أن قام بطرد سفيـر إسرائيل من أنقرة، فدبرت مع أحد جنرالات الجيش التركى انقلاباً عسكرياً ضده عام 1960 وحُكم عليه بالإعدام شنقاً بعـد أن أعاد تركيا إلى الإسلام.. وأستكمل بقية الاعتبارات الأسبوع المقبل بإذن الله.