رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كراكيب .. حياتنا


مسكين موظف حجرة الأرشيف فى تلافيف الدماغ ؛ وأشفق عليه من زحام الأرفف بالذكريات والأحداث الحياتية، ويبدو أنه كلما ازدحمت الملفات بالأحداث فإنه يتلعثم ويتعثر ويتعسر فى سرعة استحضار مايخطر ـ فجأة ـ على الذاكرة فتختلط عليه العناوين، وربما يستحضر ملفًا آخر غير الملف المطلوب، وكان فى حداثة العهد نشيطًا يبسط أمامى ما أستحضره من أحداثٍ «صوتًا» و «صورة»، 

بل ويأتى بهما بما تحمله من زخم «رائحة» المكان والزمان أيضًا !! ترى .. ماذا اعتراه الآن فى زحمة «كراكيب» حياتنا من الذكريات داخل تلافيف الدماغ ؟ هل ضاقت عليه حجرة الأرشيف على اتساعها المعنوى المفترض أن تكونها ؟ أم أنه يقوم بالتصنيف والفهرسة طبقًا لأهمية كل حدث وتأثيره فى مسيرتنا الحياتية ؛ ويقذف فى «الكرار» ما يعتبره من سقط الذكريات، ولا يعطيه الأهمية الواجبة فى سلسلة ذكرياتنا المليئة والمكدسة ببعض الصغائر ؟ اعترتنى تلك الخواطر وأنا أطل من شرفة منزلى على شرفات وأسطح منازل قاهرة المحروسة من حولى ؛ لأجدها وقد ازدحمت بكل سقط المتاع فى منازلنا، وتحتوى على قطع الأثاث المستبدل بالأحدث بالتأكيد، ولكن ولأنها تحمل جزءًا فى ذاكرتنا ؛ فإننا لانتخلص منها كليةً، ولكننا ـ فقط ـ نبعدها عن الأنظار ونذهب بها إلى حيث «كراكيب» الذكريات ـ ربما ـ لنستعيدها كلما نظرنا إليها نظرة عاجلة فى أركان الشرفات ونتركها لتعيش قريبة منَّا وفى أحضاننا، بدلاً من أن تذهب إلى حيث تصنع ذكريات جديدة مع من يقتنيها من أصحاب الحظوة .

ياالله .. على تلك المقارنة المبهرة !!

ولكنى اكتشفت أن كراكيب «الذكريات» فى تلافيف الدماغ وداخل حجرة الأرشيف، تستوى مع كراكيب «سقط المتاع» فى شرفاتنا، فكلاهما يعيق حركة الحياة المفترض أن تكون سهلة بسيطة انسيابية فى سريانها مع سريان حركة الأيام والسنين، فقط تظل ذكريات الإنسان له ولشخصه بكل ما فيها من أفراح وأتراح، وليذهب سقط المتاع ليصنع الجديد مع أصحابه الجُدد !!

وأذكر إلى عهد قريب ـ وربما موجود الآن ولكن بشكل أقل ـ أن كانت شوارع القاهرة يتردد فى جنباتها نداء «روبابيكيا- بيكيا» من حناجر أصحاب تلك المهنة ؛ الذين يجوبون الشوارع والطرقات لشراء كل ما تتخلى عنه «ست البيت» بعد مساومات فى الثمن المقابل، ولكن فى النهاية تتم الصفقة وتستفيد الأسرة بالمقابل المادى نظير التخلص من الكراكيب التى تعيق الحركة وتؤلب الذكريات، ويستفيد المشترى بفارق السعر عند إعادة البيع لمن يحتاج تلك الأشياء، فهكذا تدور عجلة الحياة التى لا تتوقف عن الدوران .وقد تتحول كراكيب الأسطح إلى خطر داهم لأن الحرائق يمكن أن تندلع بمجرد إلقاء عقب سيجارة وتبقى كارثة وليست ذكريات تسعد متذكريها! فهل آن الأوان لنا فى المجتمع المصرى أن نتخلص من كل «كراكيب حياتنا»، ونعيد النظر إلى كل ما قمنا «بتكهينه» وخروجه من الخدمة وأودعناه رهين أركان الشرفات وأسطح منازلنا التى يجب أن تتحول بلمسات جمالية بسيطة إلى ما يشبه «الأندية الاجتماعية» للقاءات الودية التى تحمل التقارب والود بين سكان العقار الواحد وتعمل على إيجاد الوشائج الحميمية التى تزيد الترابط بين أفراد المجتمع، ولنرى مساحة التحرك نحو الغد المأمول أرحب وأوسع ؛ لاسيما التخلص من بعض المفاهيم التى صاحبت فترات سياسية تركت آثارًا سلبية على بنية المجتمع وسلوكيات الأفراد ليصبحوا رهينة أفكار ومعتقدات يجب اجتياز عقباتها التى تكبل الأفكار وابتكار كل جديد للتقدم إلى الأمام . نادوا معى : روبابيكيا .. بيكيــا.

■ أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون