رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأبوة فى الكنيسة


أعظم كلمتين فى الوجود هما «الأب والأم»، فأول كلمتين ينطقهما الطفل هما «بابا.. ماما» حتى صارتا بالنسبة له كلمتى «النجدة» فى الشدة والضيق والألم والعوز والاحتياج. متى تخلى الأب عن أبوته فقد صار مرفوضاً من ابنه، ومتى تخلت الأم عن أمومتها فقد صارت مرفوضة أيضاً من ابنها، من هنا نجد أن الكنيسة الواعية أطلقت على المدبرين من رجال الكنيسة لقب «آباء» وعلى الكنيسة نفسها لقب «أم»، والصفة الجميلة التى تجمع الأب بالأم نحو أبنائهما هى «المحبة». هذه هى مقياس الرعاية الأمينة، وكل مقياس آخر تُقاس به الرعاية خلاف «المحبة» هو مقياس بشرى محكوم عليه بالفشل مسبقاً، هذا المقياس الدقيق مُعّرض للتلف بتأثير عوامل كثيرة منحطة - كما يقول الأب متى المسكين - كالانتفاع المادى أو المعنوى.. إلخ، ولكن أخطر عوامل التلف هو تعرضه للتقوى الشخصية، أى تكون الرعاية مظهراً أو استعراضاً للتقوى الشخصية، وحينئذ يحل البر الذاتى بدل المحبة الطاهرة النقية. إذا كانت الرعاية والخدمة مصابة بالأنانية ومقياسها الروحى تالف فإنك تجدها دائمة حذرة جبانة مهيأة للهرب من احتياجات الأبناء، غير مستعدة للخسارة، مُعرضة للنكوص والتوقف، أما الرعاية الأمينة التى يشدها الحب العميق القلبى تجدها شُجاعة مُجاهرة وفمها مفتوح، مستعدة بسرور لتحمل كل الاحتمالات، متلذذة بالبذل، مُضحية بلا حدود. فالأب الأمين يحيا فى وسط أولاده - إن كان أباً حقيقياً - لا ينفرد عنهم بعيداً ويرسل لهم الفتات الساقط من مائدته!! هذا ليس راعياً بل أجيراً. الأب الحقيقى لا يترفع عن قذارة ثياب ابنه، بل يحتضنه ويغسلها ويُقّدم له أفخر الثياب. الأب الحقيقى يعرف احتياجات ابنه حتى قبل أن يتفوه الابن بكلمة، فالمشاركة فى مشاعر الأبناء المخدومين وعواطفهم وأفكارهم جزء لا يتجزأ من الرعاية الأمينة، والرعاية قبل كل شىء هى نزول إلى حالة الأبناء على الواقع الطبيعى للتعرف على أحوالهم وتذوق ومُعايشة - نعم تذوق ومُعايشة - ما هم عليه من جهل وفقر روحى وظلمة وبُعد عن الله، ثم الارتفاع بهم إلى فوق بفعل المحبة الصادقة. الرعاية الأمينة لا تترفع عن أسوأ الحالات التى تتردى فيها النفس الإنسانية ولا تزدرى بما يعلق بالنفس من وسخ الخطية، الرعاية ليست كلمة من على المنبر وإنما مسك يد الخاطئ والضعيف والعبور به من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة. هل سمعنا عن أب يرعى أولاده بالـ «كنترول عن بُعد»؟ أو يقيم فى منزل فاخر بينما ابنه يعانى من قسوة الحياة اليومية؟ أو يضع أسواراً حاجزة بينه وبين ابنه حتى لا يسمع له أو حتى لا يراه؟ هنا يكون الأب قد فقد أبوته وبالتالى فقد رسالته المُكلف بها وصار مرفوضاً من أبنائه. لا يمكن أن ينجح الأب فى رفع ابنه من منطقة اليأس والظلمة والموت إلا إذا كان مستعداً بالحب أن يدخل مع ابنه إلى نفس هذه المناطق، وكان متسلحاً بروح أبوة شديدة لكى يصعد به إلى النور والحياة بقوة الله الساكنة فى الأب المخلص والصادق والأمين. الله لا يسكن فى المخادعين والمزيفين.