رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"سانت تريزا" تبكي في فضاء الوحدة والحزن "قراءة نقدية"

جريدة الدستور

تعد رواية "سانت تريزا"، الصادرة عن دار "اكتب" للروائي بهاء عبد المجيد من الروايات المهمة، التي تجذب القارئ للدخول إلى عالمها ومعايشة أحداثها من بداية الرواية وحتى نهايتها.

تطرح الرواية عبر شخصياتها بعض العلاقات الشائكة التي تعتري المجتمع المصري، ومن أهمها تلك العلاقة الودية التي كانت تسود حياة المسلمين والأقباط معا في منطقة "سانت تريزا" بحي شبرا في القاهرة، تلك البؤرة التي انطلقت منها أحداث الرواية بشخوصها وأبطالها في عالم تتشابك فيه المواقف والأحداث الإنسانية المختلفة بتعقيدها وبساطتها.

عندما تنظر لعدد الأوراق التي تحتوي عليها هذه الرواية، ربما تبدو قليلة في حجمها، ولكنك عندما تقرؤها بتأمل وتتمعن في أحداثها ترى عدد هذه الأوراق يزداد بحجم حزن وأحلام شخوصها وأبطالها.

و"سانت تريزا" هو المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية في أحد أحياء شبرا بجوار كنيسة "سانت تريزا"، هذا الرمز الديني المقدس، الذي تحتشد الرواية من خلاله بمجموعة من الشخصيات والأحداث، التي يقل دور ومساحة بعضها حينا، ولكنه رغم ذلك يحمل معه عمقا أكبر تفرشه وتعكسه الأحداث المتشابكة والمتصارعة داخل الذات الإنسانية؛ لتجد لكل منهم امتدادًا يصل لداخلك، يتوحد معك في تماس يترك لخيالك وذهنك العنان ليفرش مساحات أكبر وأعمق تعد امتدادًا لذلك الحزن وتلك الأحلام.

فهناك "الشخصية المحورية" التي تنطلق من بؤرتها الرواية، التي تعبر عن صراع الإنسان مع الـ"أنا" المملوءة بكثير من التناقضات والأحزان والأحلام المتصارعة وعلاقتها بالوجود والعالم من حولها لتجد نفسك جزءًا من هذه الـ"أنا" داخل كل شخصية من شخوص الرواية؛ فـ"بدور" هذه المرأة التي كانت تحيا حياة سعيدة وراضية، رغم عيشتها البسيطة وفقرها المدقع، سرعان ما تتبدل لتصبح امرأة أخرى عندما يكبر طموحها وتتغير أحوالها المادية من هذا الفقر إلى بداية الغنى بعد عملها مع صاحب الأتيليه اليهودي "لوكا" وتهمل زوجها، الذي شاركها الحياة بمرها وحلوها وأحبها بصدق؛ امرأة كانت تحيا بثنائية "الحب والحلم" والآن يرحل "الحب" ليبقى "الحلم" و"الطموح"، الذي أصبح "سلطة" قوّضت تحتها كل ما هو إنساني وجميل فلا يرى الفرد إلا نفسه فقط، وليذهب الآخر إلى الجحيم لتبقى الـ"أنا" في العالم المادي القبيح.

هذا العالم الذي تتسع دوائره شيئا فشيئا باتساع مساحة الأحداث وتصاعدها بين السطور فيجسد المؤلف العلاقة الشائكة والمرتبكة دائما بين البسطاء المقهورين والسلطة المتحكمة القامعة، فها هو "سليم" أحد الذين وقعوا في براثن هذه السلطة نتيجة أنشطته السياسية، التي تقاوم في محاولة للخروج عليها والتحرر منها ولو "بنظرة"، يحاول أن يعبر بها خلال نافذة الزنزانة، أربعة قضبان من الحديد، لم تعد لديه القوة على كسر هذا الحديد، فهو ليس "داوود" ولكنه "سليم" الشاب الذي لم تعطه الحكمة قوة ولم تمنحه الثورة تحررًا، بل بات أسيرًا معزولًا.

هكذا حال ما آل إليه "سليم"، الذي سقطت كل أحلامه، وحتى حكمه التي كانت تسلح وعيه ضد مجتمع قاهر ومتسلط ليصبح وجها لوجه أمام الحقيقة المؤلمة.. لتنتصر السلطة ويقبع هو وحيد مقيد بسلاسل العزلة والإحباط والحزن لينتقل من سجن الحياة ليدخل سجنًا أقل منه مساحة، ولكنه ليس بأقل منه قسوة، فيشتهي بشراهة أنسام الحب والجسد والحرية، التي عرف قيمتها الآن؛ فها هي الأحلام والخيالات التي تجتاحه مداعبة يقظته ونومه فيتخيل كما لو (أصبح قزمًا ليحقق حلمه في العبور عبر سجنه، يتنسم هواء الحرية.. وآه لو أصبح عملاقًا لديه قوة خارقة لدشدشة هذه الجدران ليسبح في النيل الذي سيصير ملاذًا لأحلام العاشقين، الذين طالما قهرهما العالم دون أمل في النجاة..)، والآن يحيا "سليم" بلا أمل في "الحرية"، وبلا أمل في "الحب".. بعدما فقد حبيبته "سوسن" بعد سجنه، مثلما فقد كل شيء، فـ"سوسن" أحد شخوص وأبطال الرواية المحوريين، التي سارت بها أحداث الرواية كخيط لا ينقطع تشتبك من خلاله أحداث الرواية وشخوصها من أولها وحتى نهايتها.

فهي المرأة التي عاشت بالحلم وبالحب، هكذا تجسد لها العالم في مرآتها كل صباح لتتحطم في النهاية هذه الصور الوهمية على صخور الواقع المؤلم وأحداثه المأساوية داخل الرواية.. فها هي تفقد الصديقة "بدور" بعدما تتغير لتصبح وكأنها آخر لم تعرفه من قبل، وتفقد الحبيب "سليم"، الذي صار أسيرًا خلف قضبان السجن والاعتقال، وتفقد "أخاها" سعيد في الحرب بلا أمل في العودة؛ إذن فليرحل "الحب" ويبقى "الحزن" لتصبح وحيدة في عالم، لا مكان للمسلمات والثوابت في فضائه، فللحياة وجوه أخرى لم تألفها عيناها، ولم يقبلها عقلها وقلبها، والآن هي (بلا أمل وبلا حب) لتقف بأحلام لم تمنحها القوة، وآمال حطمها اليأس على صخور الحقيقة الموجعة لتصبح في مفترق الطرق وحيدة، في انتظار الذي لا يأتي أبدًا.

إنها الحياة بمفارقاتها الغريبة، تجمع بين شخوص الرواية وأبطالها وبيننا؛ ليجد كل منا نفسه في حلم "بدور" ويأس "سليم" ووحدة "سوسن" وحزنها؛ لنشترك جميعًا في نفس المصير والنهاية؛ نهاية كل من فقدوا أحلامهم وحريتهم ليظلوا يبكون جميعًا في "فضاء الوحدة والحزن".