رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيـرات الـدولـيـة والإقـلـيـمـيـة وتأثيرها فى المنظور الأمريكى «5»


أوضحت فى المقالات السابقة نجاح قادة حلف الناتو فى ضم شركاء جـدد أغـلبهم من دول حلف وارسو، وأقاموا بها منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية لحصار روسيا عسكريا بعـد أن فرضوا عـقوبات اقتصادية جديدة لإحكام عـزلتها وافتعـلوا أزمة تدنى أسعارالطاقة حتى ينهار اقتصادها.
لكنهم تناسوا الإشارة إلى المتغـيرات التى يمكن أن تشكل تهديدات جديدة للحلف، بالرغم من أن تقرير لجنة التخطيط الاستراتـيجى لوزارة الخارجية الأمريكية لعام 1988 قد كشف عن هذه التهديدات، حيث تضمن النص التالى «أما وقـد انتهت الحرب الباردة بيـننا وبين الاتحاد السوفييتى، فإن مصادر التهديـد البـديلة ستكون مصادر عـدم الاستقرار فى دول الأصولية الإسلامية والأنظمة السياسية غـيـر المستقرة» وأوضحت مفهوم مصطلح الأصولية فأرجعـت نشأته إلى بعض الحركات اليهودية والمسيحية، ثم قام الغـرب بإطلاقه على الإسلام، ثم أوضحت مفهوم مصطلح «العالم العربى» بأنه يعـنى مجمـوعة متناثـرة من الدول والشعـوب التى لن تجد لها مكاناً فى عالم الغـد ما لم تصبح أمة واحدة، أو على الأقل ما لم تُؤمن نفسها باستراتيجية عربية موحدة.

ولبناء مثل هذه الاستراتيجية فإنه يتعـين أولا دراسة الموقف الاستراتيجى وهو ما تُشير إليه مختلف العلوم، عـلى أن تخلص الدراسة إلى تصور رؤية واضحة ورسالة محددة لتكون نقطة انطلاق سليمة لبناء الاستراتيجية، عـلى أن تخلص أيضا إلى تحديد جميع أشكال التهديدات والتحديات التى تُعيق بناءها «محددات بناء الاستراتيجية» والتحليل الدقيق للقدرات العربية الحقيقية السياسية والاقتصادية والأمنية والعـسكرية والاجتماعـية كـ«مرتكزات بناء الاستراتيجية» حتى يمكن تحديد الأهداف الاستراتيجية بدقة وتحديـد أدوات ومراحل وتوقيتات تحقيقها، وسأبدأ بتناول المحددات العالمية والإقليمية والمحلية لبناء الاستراتيجية المقترحة.

وتأتى قضية انفراد الولايات المتحدة بالهـيمنة على النسق الدولى على رأس قائمة المحددات العالمية خاصة بعـد تفكك الاتحاد السوفييتى، وانفـراط عـقد المنظـومة الاشتـراكية لدول شرق ووسط أوروبـا « دول حلف وارسو» وقد ترتب على ذلك اختلال التوازن الدولى، وتعاظم هذا الاختلال من منطق عدم القبول الروسى والصينى بالتفـوق الأمريكى الغربى المطلق، وقـد ترتب على ذلك أن اتسم النظام الدولى بالاضطراب وعـدم الاستقـرار، وأدى إلى بروز أزمات سياسية واقـتـصاديـة خـطـيـرة فى العـالم العـربى، خاصة بعـد أن فقد هامش المناورة بانهيار القطب الموازن للدور الأمريكى.

كما تُشكل الفجوة الواسعة الـناتـجـة عـن الـتـطـور العـلمى والتكنولوجى الهـائـل تناقضاً حاداً فى العـلاقات الـدولـيـة بين الشمال والجنوب ، وقد ازدادت هذه الفجوة اتساعاً بمرور الزمن، كانعكاس صريح لحاجة الـشمـال للمعادن الاستراتيجية اللازمة لتصنيع المنتجات عالية التقنية، خاصة مع تعمد دول الشمال حجب تكنولوجيا التصنيع عن الجنوب حتى تزداد حاجته إليه، الأمر الذى أحدث اضطراباً مطرداً فى العلاقات الدولية مع بروز مبدأ ازدواجية المعايير فى القضية الواحدة تبعا لمتغـير القوة والمصالح خاصة مع الدول العربية.

وتمثل هـيمنة دول المنظومة الرأسمالية على الاقتصاد العـالمى تحدياً صريحاً لبناء الاستراتيجية العـربية، خاصة مع توجه الأنساق الإقليمية الأخرى نحو بناء تكتلات اقتصادية عـملاقـة «الاتحاد الأوروبى ـ تكتل النافـتـا ـ تكتل دول الآسيان ـ تكتل دول النمور الآسيوية ..إلخ» فضلا عـن الصين، واليابان، وروسيا، التى تعـتبر تكتلات قائمة بذاتها، وهو الأمر الذى يُـبـرز معـه عـدم قـدرة أى دولة فى العـالـم على التعامل المنفرد مع هذه التكتلات والكيانات العـملاقـة مهما كانت قوتها الشاملة، خاصة مع امتلاك هذه التكتلات التكنولوجيا المتفوقة، مع الوضع فى الاعـتبار أيضاً أن هذه التكتلات تطل جميعـها على المحيطين الهندى والهادى فـيـما عـدا الاتحاد الأوروبى، وأن هذه التكتلات تعـتبـر المنطقة العـربية امتداداً طبـيعـيـاً لغـرب آسيا، وأن أمنها يـبـدأ من هـذه المنـطـقـة ، كما أن الاتحاد الأوروبى يرتكـز على المنطقة العـربية، إذ يستند الأمن الجماعى الأوروبى إلى دول شمال أفريقيا باعـتبارها تشكل العـمق الاستراتيجى لأوروبـا، الأمر الذى قـد يؤدى إلى تعاظم أهمية هذه المنطقة أمنياً بالنسبة لغرب وجنوب أوروبا.

كما أن تـنـاقضات المعـادلـة الاستراتيجية العالمية قـد أحدثت كـثـيــرا من الأزمات السـياسية والأمـنـيـة والاقـتـصاديـة، فـفـى الـوقـت الـذى أصبحـت فيه الولايات المـتـحـدة تـتـمـتـع بالـمكـانـة الأولى فى العـالـم سـيـاسـيـاً وعـسكـريـاً، إلا أن مكانـتـها الاقـتـصـاديـة تـواجـه تـهـديــدا من تعــدد الأقـطاب الاقـتـصاديـة العـملاقـة، الأمـر الـذى أدى الى اختلال بنيان الـنـظام الـدولى الـقـائــم عـلى أحاديـة الـقـطـبـيـة سياسياً وعـسكريـاً، وتعـدد الأقـطـاب اقـتـصاديـاً، فازداد العالم اضطراباً كانعكاس صريح لحالة الاستقطاب الجديدة بين الشرق والغـرب، فزادت حدة الأزمات الأمنية والاقتصادية والسياسية خاصة فى المنطقة العربية، وللحديث بقية الأسبوع المقبل بإذن الله.