رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيـرات الـدولـيـة والإقـلـيـمـيـة .. وتأثيرها على المنظور الأمريكى «4»


أن الوحدة العربية ستظل أملاً منشوداً وتتطلب أمداً بعـيداً لتحقيقها، إلا أن البدء فى تحقيقها منذ الآن أفضل كثيراً من أن يمضى الزمن دون أن نبدأ، وكأننا لم نستوعب درس الماضى عندما نجح الاستعـمار فى إقامة الوطن القومى لليهود فى قلب المنطقة العـربية، لتجعـله فاصلاً أرضياً يمنع وحدتها، وفاصلا ًزمنياً يحول دون تقدمها ونزيفاً مزمنا لثرواتها،

أوضحت فى المقالات السابقة مدى نجاح قادة حلف الناتو فى تطوير قدرات الحلف بضم شركاء جـدد أغـلبهم من دول حلف وارسو، وإقامة منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية فى هذه الدول لحصار روسيا عسكرياً لإحكام عـزلتها بعـد أن فرضوا عـقوبات اقتصادية جديدة وافتعـلوا أزمة تدنى أسعار الطاقة، لكنهم تناسوا الإشارة إلى المتغـيرات التى قد تنشأ وتشكل تهديدات جديدة للحلف، إلا أن تقرير لجنة التخطيط الاستراتـيجى لوزارة الخارجية الأمريكية عن عام 1988قد كشف عن التهديدات الجديدة، حيث جاء فيه هذه العـبارة «أما وقـد انتهت الحرب الباردة بيـننا وبين الاتحاد السوفييتى، فإن مصادر التهديـد البـديلة خلال السنوات المقبلة ستكون مصادر عـدم الاستقرار فى دول الأصولية الإسلامية والأنظمة السياسية الأخرى غـيـر المستقرة».

وأوضحت أن مصطلح الأصولية يرجع فى نشأته إلى بعض الحركات المسيحية التى تعـتقد فى أن الكتاب المقـدس معـصوم من الخطأ، خاصة فيما يتعـلق بقضايا العـقـيـدة وقضايا الغـيب كقضية الخلق، وولادة السيد المسيح وطبيعـته وعـودته، وهو ما يتسق مع مفهوم الأصولية اليهودية التى تعـتقد فى إقامة «مملكة داود» فى فـلسطـيـن تمهيداً لعـودة المسيح ليحكم العالم ألف سنة فـيـما يعـرف «بالعـصر الألفـى السعـيد»، ثم استخدم الغـرب هذا المصطلح على الإسلام، وأوضحت أن مفهوم مصطلح «العالم العربى» يعنى أنه مجمـوعة متناثـرة من الدول والشعـوب، الذى لن يجـد له مكانـاً فى عالم الغـد عالم التكتلات والكيانات الكبيرة، ما لم يصبح أمة واحدة تحقيقاً لقول الحق تعالى «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعـبدون»، أو على الأقـل ما لم يؤمَن نفسه باستراتيجية عربية شاملة تستطيع مجابـهة ما يحيق به من أخطار.

وتُشير جميع أدبيات العلوم الاجتماعية إلى أنه لبناء استراتيجية ما، فإنه يتعـين أولاً دراسة الموقف الاستراتيجى دراسة متأنية على أن تخلص هذه الدراسة إلى رؤية واضحة تُشكل نقطة الانطلاق السليمة لبناء هذه الاستراتيجية وتحديد الغاية النهائية منها، ولذلك فإنه يتعـين دراسة الموقف الاستراتيجى دولياً وإقليمياً حتى يُمكن تصور الرؤية الواضحة عمَا سيكون عليه «العالم العربى» إذا استمرت أوضاعه الراهنة على ما هى عليه، خاصة فى ظل سرعة تفاعلات المتغـيـرات الدولية والإقليمية والمحلية الراهنة واستيطان حركات الإسلام السياسى المتطرفة والجماعات الإرهابية لبعض دوله، وتحديـد التحديات والتهديدات التى تجابه «العالم العربى» الناتجة من استمرارية أوضاعه، ثم التوصل إلى رسالة واضحة تُحدد الغاية النهائية من بناء هذه الاستراتيجية «إقامة وطن عـربى متلاحم» يسكنه شعـب واحد وتحكمه حكومة واحدة ويُشرع له برلمان واحد، ودستور واحد وقوانين واحدة يلتزم بها الحاكم والمحكوم، كما ينبغى أن تنتهى الدراسة بتحديد جميع صور وأشكال التحديات التى يمكن أن تُعـيـق تحـقـيـق هذه الرؤيـة وتلك الرسالـة «محددات بناء هذه الاستراتيجية» ويتعـين أن تتضمن الدراسة التقدير السليم للمقدرات الحقيقية المتاحة والتى يُمكن إتاحتها أمنياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً كمقومات بناء هذه الاستراتيجية «مرتكزات بناء الاستراتيجية» حتى يمكن تحديد الأهداف الاستراتيجية بدقة وتحديـد أدوات تحقيقها.

وتُشير الحاجة الاستراتيجية الملحة للواقع العربى إلى أهمية وضرورة بناء استراتيجية عربية موحدة تؤدى إلى تحقيق الوحدة العربية مستقبلاً، بعد أن فشلت جميع الاستراتيجيات المنفردة للدول العـربية حتى الآن فى ردع أو مجابهة التحديات والأخطار التى كانت طرفاً فيها طوعاً أو كرهاً بحكم موقعها وثرواتها، وظلت هذه الدول عـاجزة عن إقامة نسق عـربى مميز بالرغـم من توافر جميع اشتراطاته، وبالرغـم من ذلك فما زال الأمل قائماً لبناء هذه الاستراتيجية، فبالـرغـم من تـعـدد الغـزاة والمستعـمريـن وتجزئـة المنـطـقـة عـبـر حـدود مصطـنعـة، فـقـد هـبت شعـوب الدول العربية لمسانـدة بعـضها البعـض وعاشت تاريخاً واحداً وتجابـه مستـقـبـلاً واحـداً.

وبالرغم من أن الوحدة العربية ستظل أملاً منشوداً وتتطلب أمداً بعـيداً لتحقيقها، إلا أن البدء فى تحقيقها منذ الآن أفضل كثيراً من أن يمضى الزمن دون أن نبدأ، وكأننا لم نستوعب درس الماضى عندما نجح الاستعـمار فى إقامة الوطن القومى لليهود فى قلب المنطقة العـربية، لتجعـله فاصلاً أرضياً يمنع وحدتها، وفاصلا ًزمنياً يحول دون تقدمها ونزيفاً مزمنا لثرواتها، فلم يكن هذا النجاح إلا فى غـياب الأمل المنشود الذى يمكن تحقيقه فى مراحل متدرجة حتى لو طال الأمد، وتتمثل المرحلة الأولى فى تفعـيل اتفاقية الدفاع المشترك وتحقيق التكامل فى جميع المجالات فى مدى زمنى قريب «5 سنوات» وتتمثل الثانية فى بناء استراتيجية عربية موحدة على المدى المتوسط «10ـ 15سنة»، أما المرحلة الثالثة فتتمثل فى تحقيق الوحدة العربية على المدى البعيد «25ـ30سنة» وهو ما سنتناوله فى الأسابيع المقبلة. بإذن الله