رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلاقات الدولـيـة.. بين التقارب والتباعـد «13»


وبدأت الصين فى تنفيذ استراتيجية التنمية الاجتماعية بفرض قيود صارمة للتحكم فى معـدلات الزيادة السكانية أولاً، ثم أعدت خططاً دقيقة للتنمية البشرية خاصة فى مجالات الصحة والتعليم والرياضة ثانياً، ويقوم العاملون الصينيون بالخارج بالمشاركة فى تمويلها.

تُعـد سيطرة الجمهوريين على الكونجرس الأمريكى بمجلسيه من أبرز المتغـيرات المؤثرة على المعادلة الاستراتيجية فى الداخل الأمريكى وفى علاقات الولايات المتحدة الدولية، وهو ما سيؤثر على حركية تفاعلات النسق الدولى، فمازالت الولايات المتحدة هى قائدة تفاعلات العالم فى «النظام الدولى أحادى القطبية»، وهو ما سيؤدى إلى بروز أزمات سياسية واقتصادية كبيرة كانعكاس صريح لسعى روسيا لاستعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى، وعدم رضا الصين عن دورها الهامشى فى المعادلة الدولية، خاصة فى المنطقة العـربية التى تُعتبر قلب العالم، وقمت فى المقال السابق بتحليل القوة الشاملة للصين للإجابة على السؤال الذى فرض نفسه وهو: هل يُمكن للصين أن تُصبح أحد أقـطاب عالم الغـد؟ وبدأت بالمقدرة الاقتصادية باعتبارها المقدرة التى تتمحور حولها عناصر القوة الأخرى، وخلصت إلى أن هناك صعوداً متعاظماً للمقدرة الاقتصادية الصينية فى ضوء الإدارة الحازمة والرشيدة للموارد الاقتصادية خلال العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضى وحتى الآن بما يؤهلها لأن تكون أحد أقطاب الغـد.

وبالرغم من هذا الصعـود المتعاظم، إلا أن الصين قد أدركت أن تدنى مقدرتها الاجتماعية هى التى تقف حائلاً دون تحقيق توازن مكانتها، سواء فى نسقها الإقليمى مع اليابان التى حققت منحنى صاعـداً حتى وصل إلى قمته فى تنمية مقدرتها الاجتماعية، أو فى النسق الدولى مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، فاتبعت استراتيجية محكمة تضمن تنمية المقدرة الاجتماعية بما يتسق مع مقدرتها السياسية والاقتصادية ومقدرتها العسكرية التى بدأت فى تطويرها لتحقق توازنها الدولى، خاصة بعـد أن استوعـبت درس الولايات المتحدة للسيطرة على العالم باتباعها استراتيجية بحرية متفوقة، فسعـت إلى امتلاك أسطول بحرى تستطيع به حماية مصالحها الحيوية التى انتشرت فى أنحاء العالم، وهو ما يفسر لنا تواجد الصين الكثيف فى أفريقيا فى المناطق المتاخمة لاستخراج المعادن الاستراتيجية بما يضمن تعـزيز مقدرتها العـسكرية، وقد نجحت فعـلاً فى تشغـيـل أول حاملة طائرات صينية، وتعاقدت مع روسيا لشراء أحدث منظومات الدفاع الجوى (s 400).

وبدأت الصين فى تنفيذ استراتيجية التنمية الاجتماعية بفرض قيود صارمة للتحكم فى معـدلات الزيادة السكانية أولاً، ثم أعدت خططاً دقيقة للتنمية البشرية خاصة فى مجالات الصحة والتعليم والرياضة ثانياً، ويقوم العاملون الصينيون بالخارج بالمشاركة فى تمويلها. ثالثاً، إذ يشير الواقع إلى أن هناك ما يربو على 90 مليون صينى يعـملون بالخارج، منهم أكثر من 60 مليوناً يعيشون فى الدول الآسيوية المختلفة، وأصبحوا يمثلون مراكز قوى اقتصادية داخل هذه الدول، حيث يهيمنون على التجارة والاستثمار فيها (باستثناء كوريا الجنوبية واليابان) فالذين يعيشون فى ماليزيا على سبيل المثال يمثلون حوالى 30% من سكانها ويتحكمون فى50% من اقتصادها.

ويشكل الصينيون حوالى40% من سكان أندونيسيا ويسيطرون على70% من اقتصادها، بينما يشكل الصينيون حوالى 3% فقط من سكان تايلاند، وبالرغم من ضآلة هذه النسبة إلا أنهم يهيمنون على60% من اقتصادها.... إلخ، ويعـيش الصينيون فى شكل خلايا متصلة فى هـذه الدول ليشكلوا ظاهرة اجتماعـية فـريـدة فى الاقـتـصـاد العالمى باعتمادهم على مهاراتهم الذاتية الفائقة، حيث تـتـداخل هـذه الخـلايـا فيما بينها وتتفاعـل مع بعـضها فى احترام شديد، لتشكل نمطاً سلوكياً يـدعـو إلى التفاؤل والثقة بين شعـوب هـذه الدول، فضلاً عـن احترامهم والتزامهم الكامل بالقيم الأخلاقية الراسخة المتوارثة التى تتمثل فى قيم التواضع والإقدام، واحترام المواثيق والعهود، والالتزام بالجدية والمثابرة الممهورة بالصدق والأمانة، ويغـلب على هذه الخلايا الطابع العائـلى، إذ يتوارث الأبناء العـمل فى نفس المهن التى يعـمل بها الآباء والأجداد ويعـملون عـلى تطويـرها وازدهارها وتوسيع نطاقها وحجمها. ويلتزم كل واحد من هؤلاء العـامليـن فى الخارج بتحويـل ألف دولار شهريـاً بما يعادل 90 ملياراً شهرياً أى أكثر من تريليون دولار سنوياً للإسهام فى خـطـط الـتـنـميـة التى تـتعـلـق بتعـظيم المقدرة الاجتماعية.

وفى هذا السياق أود التذكير باحتفالات افتتاح دورة بكين الأولمبية، ففى الدقيقة الثامنة من الساعة الثامنة من اليوم الثامن من الشهـر الثامن من السنة الثامنة من الألفية الثالثة، افتتحت الصين دورتها الأولمبية فى احتفال مهيب، فى حضور أكثر من ثمانين قائداً سياسياً يتقدمهم رئيس أقوى دولة فى العالم، ومشاركة أكثرمن مائتى دولة، وقد حققت الصين مغانم كثيرة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعـية، وتمكنت من إزاحة القوى العظمى والكبرى عن المرتبة الأولى وكأنها تعـلن بكل ثقة ووضوح أنها عازمة على أن تكون أحد أقطاب الغـد.. وللحديث بقية فى الأسبوع القادم بإذن الله.

أستاذ العلوم السياسية ــ جامعة بورسعيد