رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يسرى أبو القاسم يكتب.. دعاء الكروان عن رواية لـ"طه حسين":

حينما تسأل آمنه.. وين هنادى ياخال؟

جريدة الدستور

ما كان أبوهما صالحاً لذا شقيتا وتاهت بهما الدروب.. آمنة وهنادى وأمهما زهرة وخالهما جابر وجملان وفضاء واسع وصوت كروان وحقول يعلوها ندى كالدمع أو قل هو الدمع بعينه.
وبلهجة بدوية تتسق وبيئتهم أمر جابر أخته وابنتيها بالنزول، انصاع ثلاثتهن لأوامره الصارمة وما هى إلا لحظات وكان سكينه ملطخاً ومخضباً بدم هنادى ولم تنبس آمنة بكلمة واحدة وخرت صريعة، أما الأم فقالت: فى أس ليش يا جابر؟! دارت الدنيا بآمنة تلك الفتاة الرقيقة ولم تدر بنفسها إلا بعد أيام. وحولها النسوة من كل جانب تساءلت وين هنادى يا أماى وين هنادى يا خال؟! فكان رد الأم كما علمها جابر: هنادى راحت فى الوبا.
شريط الذكريات يعود بآمنة يوم أن طردهن أهل الحى بعد أن لفظ والدهما أنفاسه بين أحضان عشيقة له من قبيلة أخرى وارتحلت وأمها وشقيقتها هنادى إلى بلاد الله الواسعة لا يعرفن لهن وجهة ولا قبلة وتذكرت يوم أن عملت خادمة فى بيت المأمور الذى عاملها وزوجته باحترام كما أن ابنته خديجة اتخذتها صديقة وعلمتها القراءة والكتابة أما شقيقتها فكانت خادمة لذاك المهندس الزراعى ليس فى المنزل إلا هو وهى وعلى حافة الحديقة يسكن الجناينى لا يأبه بشىء إلا خدمة سيده من الخارج ولا شأن له بما يحدث فى الداخل، أما الأم فكانت تخدم فى بيت آخر لرجل صالح مر عامان وزهرة وابنتاها منشغلات بالخدمة فى هذه القرية يجتمعن كل أسبوع مرة فى غرفة موحشة وذات يوم وجدت آمنة أمها تجمع ملابسها وتأمر آمنة وهنادى بالرحيل اتبعتهما هنادى دون معرفة الأسباب وانصاعت لجملة «والدتها» هنغادر الحين.. ومن قرية إلى قرية ومن هم إلى هم أكبر ارتحل الثلاثة حتى وصلن بيت العمدة فطلبت زهرة من العمدة استضافتهن فسمح لهن، كانت هنادى واجمة متعبة صامتة طوال الوقت ألحت آمنة فى معرفة السبب فأخبرتها شقيقتها من باب الحذر والخوف عليها أنها وقعت فى المحظور مع المهندس، كانت آمنة رحيمة بأختها ولم تكن قاسية بل لم تلومها بكلمة واحدة وهونت عليها وطلبت من والدتها أن تشفق عليها.
كان الليل طويلاً جداً وصوت الكروان يصدح بأن الملك لله سبحانه وتعالى.. تعلق قلب آمنة بصوت الكروان الندى حتى عشقته وتمنت لو أنها امتلكته لتطرب به قلبها الحزين.
فى بيت العمدة كانت «زنوبة» تلك الغمازة اللمازة المرابية القوادة التى تقدم بها السن فلم يعد فيها إلا رمق وبقية مسحة من جمال لا تغرى شباباً ولكنها كانت تقدم من أصغر منها بعد تدريب فى بيتها يعلمه القاصى والدانى فكانت مهنتها بالنهار تجارة فى القمح والذرة بالربا وبالليل تجارة فى الأعراض والأنفس.
اقتربت زنوبة من آمنة إلا أن وجه المرأة المكشوف دفع زهرة لأن تختطف ابنتها من بين براثن الغانية التى مازادها ذلك إلا لمزاً وغمزاً وحركة بالصدر والأرداف كنوع من الاعتراض هذا بالإضافة إلى صوت شخير خرج من الأنف.
وجاءت عرافة نحو هنادى وقالت لها هناك شخص كان سبباً فى إيذائك وسيحبك وشخص يحبك وسيكون سبباً فى إيذائك.. علمت هنادى أنها هالكة لا محالة على يد خالها جابر الذى أرسلت له شقيقته وأتى بعد يومين وكان ما كان.
كل هذا تذكرته آمنة فما كان لها إلا أن تهرب من قريتها «بنى وركان» تلك القرية القابعة بين الهضاب لتعود إلى منزل المأمور وكل ما يشغلها هو الانتقام من ذلك المهندس الذى كان سبباً فى حرمانها من شقيقتها للأبد بعد أن قطف ثمرتها من أجل نذوة قذرة ولكن العجب كل العجب أن ذاك المهندس تقدم لخطبة خديجة صديقتها.. إنه قضى على أختها وها هى يداه السوداء تنقض على صديقتها فجمعت ملابسها ودخلت لزوج المأمور وأخبرتها بما كان من المهندس حيال أختها وتركت المنزل واتجهت نحو زنوبة التى اعتقدت أن الفتاة جاءت من أجل البغاء ولكن آمنة أخبرتها بأنها ترغب فى العمل بشرف.
وكرهت آمنة كل شىء حولها فهى فتاة لم تُخلق للمتعة التى ترغبها تلك الغانية كما أنها لم تخلق للكره الذى زرعه خالها فى قلبها بعد أن اغتال شقيقتها فى لمح البصر دون دفاع ولو بكلمة واحدة تحكى فيها ما كان فقد تكون معذروة أو مغصوبة مقهورة يا له من رجل أحمق وغبى.. كما أنها لم تُخلق لتحمل كل هذا الغل والرغبة فى الانتقام من شخص كان سبباً فيما آلت إليه حياتها لتصبح جحيماً وحزناً أليماً وبغضاً عظيماً جثم على صدرها رغم صراخها الداخلى المتكرر فتاة ريفية بسيطة فاق الحزن احتمالها مشدودة بين رغبتها فى الانتقام ورغبة زنوبة فى التهام جسدها البرىء.
كثرت محاولات زنوبة ولكن رفض آمنة كان أقوى بكثير وبعد أيام انتشر خبر رحيل المأمور عن البلد بعد نقله وبعد أيام أخرى دخلت آمنة بيت المهندس الذى حاول صيدها كما صاد كل سابقتها بما فيهن هنادى ولكنها لم تكن صيداً سهل المنال ثم رق قلب المهندس إليها وذاب فيها حباً وعشقاً وسافرت معه بعد نقله وتغيرت حياته من سهر وعربدة ومجون إلى حب لخادمته وهى بين نارين نار الثأر لشقيقتها المسكينة ونار حبها لذاك الشخص الذى تاب وأناب وندم على ما كان، فطلب يدها فأخبرته بأنها شقيقة هنادى فأصر على طلب يدها وصدح الكروان بصوته الندى ليخبرها بأنه عفا الله عما سلف.