رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المؤامرة فى الحيز العام المصرى «2»


كيف يمكن أن يكون هناك مصادر لـ «الجهل»، وهو بطبيعته سلبى؛ يفيد تلقائياً غياب المعرفة؟ كان هذا هو السؤال الذى طرحه صديق كارل بوبر Karl Popper، أحد أكثر مفكرى القرن العشرين تأثيراً، عشية إلقاء الأخير «فى العام 1960» محاضرته المعنونة «فى مصادر المعرفة والجهل» (والتى ضمنها لاحقاً فى كتابه الصادر، لأول مرة، فى العام 1963، «تخمينات وتفنيدات: نمو المعرفة العلمية»).
أما الإجابة، فقد تمثلت خصوصاً، برأى بوبر، فى «نظرية المؤامرة». باختصار، فإنه إذا كان «رواد المؤامرة»، من سياسيين ونخب، يمارسون التضليل بكامل وعيهم، لتحقيق مصالحهم ومنافعهم؛ فإن المواطنين الذين يحملون هذه النظرية ويضمنون شيوعها وبقاءها، إنما يفعلون ذلك بحكم «الجهل» الذى يعترض رغبتهم البدهية فى تبرير أحداث مبهمة.

فلا يكون من خلاص (يصون الغموض فى الواقع ولا يجليه أبداً) إلا فى «نظرية المؤامرة»، باعتبارها «مكائد» يدبرها أناس أو فئات أو دول ذوو سلطة ونفوذ وتأثير، لكنهم قادرون فى الوقت نفسه «على إخفاء دورهم هذا»، بحسب «كاس سنستاين وأدريان فيرميول» فى دراستهما «نظريات المؤامرة». وإذا كان هذا الجهل قد يتولد عن الشكل الأولى الأبسط لغياب المعرفة، وبما يجعل منطقياً افتراض أن مؤيدى «نظرية المؤامرة» ينتمون إلى الفئات الأقل تعليماً وثقافة؛ فإن الأخطر من ذلك هو الجهل الذى تتم صناعته وإشاعته من قبل «رواد المؤامرة»، فيطال فى تأثيره فئات يفترض امتلاكها قدراً من التعليم والثقافة.

قد يكون رفيعاً. وبهذا المعنى، يصير للجهل مصادر؛ إذ يغدو، بحسب بوبر «لا مجرد افتقاد للمعرفة، وإنما عمل تقوم عليه قوة (فئة) تتوخى إيقاع الأذى، تشكل مصدر تأثير سيئاً وخبيثاً، يضلل عقولنا ويسممها، ويغرس فينا عادة مقاومة المعرفة».لكن «الجهل» فى أعلى مستوياته، قد يبدو فى «التجهيل الطوعى» للذات، من خلال ما يسميه سنستاين وفيرميول «تدفقات المؤامرة» (Conspiracy Cascades)، والتى تجعل الشخص متبنياً لموقف سابقيه فى ادعاء «نظرية المؤامرة» فى تفسير حدث ما، رغم عدم قناعة الشخص أو شكوكه على الأقل فى صحة «هكذا تفسير». أما الدافع، فهو الحرص على الحفاظ على المكانة والسمعة، ولربما الامتيازات، ضمن الفئة التى ينتمى إليها هذا الشخص. بالنتيجة، لا يمكن تفسير تبنى مواطنين من العامة لـ «نظرية المؤامرة» بزعم أن هؤلاء يعانون مرضاً نفسياً، يتمثل خصوصاً فى «الارتياب»، لاسيما أن هذه «النظرية» توجد مع اختلاف الدرجة (كما الفساد تماماً) فى كل المجتمعات، وقد تشمل أغلبية مجتمع ما. لكن ما يجعل العالم العربى استثناء عالمياً بارزاً هو شيوع «نظرية المؤامرة» على مستوى النخب. وهو ما يُعد «مفيداً» فى كونه مؤشراً على فساد هذه النخب تحديداً؛ سواء لكونها جاهلة فعلاً، أو لكونها مسئولة عن جريمة «التجهيل» عن سابق إصرار وتصميم. يكفى دليلاً على ذلك، ما أوصلتنا إليه هذه «النخب المؤامراتية»، منذ ما قبل «الربيع العربى»، ثم موقفها لاحقاً من الشعوب حين ثورتها على الفساد والاستبداد.

فبعد عقود من الصمت والتبرير لأنظمة الاستبداد باسم «المؤامرة» الخارجية؛ استذكرت تلك النخب «القومية العربية» باعتبارها ذريعة للتدخل فى شئون الشعوب الأخرى، إنما فقط لإدانة هذه الشعوب، بجريمة الاشتراك فى «مؤامرة» جديدة وإن كان هدفها هو الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية! رأينا من قواعد التجريم الأساسية أن المشرع لا يعاقب إلا على النشاط الخارجى المحسوس والمتمثل بأفعال مادية تحدث اضطراباً فى المجتمع. من هنا، فإنه لا عقوبة على التفكير فى ارتكاب الجرائم، أو العزم على ارتكابها ولا حتى على التحضير والتهيئة لها، ما لم يتعد الفاعل هذه المرحلة ويتخطاها إلى مرحلة الشروع. وذلك بسبب عدم وجود سلطان للمشرع على الضمائر. ولأن تلك الأفكار خالية من الإخلال بأمن المجتمع ونظامه.

خبير فى القانون العام