رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آباء الثورة المصرية « 8 »


لعلها المرة الأولى فى تاريخ معرض الكتاب الذى يقف فيه مثقف ليواجه «مبارك» بأخطاء نظامه، ويطالبه بإصلاحات سياسية ودستورية وحماية كرامة المصريين، فلم يحدث أن واجه أحد المثقفين مبارك بأخطاء نظامه، وبصورة علنية وعلى رءوس الأشهاد فيما كان يُعرف «بحوار» الرئيس مع المثقفين إلا الدكتور «محمد السيد سعيد» - المفكر والباحث السياسى بالأهرام - الذى كان يعرف بـ «ليبرالى اليساريين» و«يسارى الليبراليين».

فقد كان «الحوار» السنوى بين الرئيس والمثقفين من جانب واحد «كحصة الإملاء»، وكانت صحف اليوم التالى تصدر بعناوين لكلام على لسانه مثل: «لا مساس بمحدودى الدخل.. ولا رجعة عن الديمقراطية.. والزيادة السكانية خطيرة جداً»، أما القضايا التى كانت تطرح فكانت هامشية وشخصية وفرعية وتافهة من نوع «أزمة الطماطم» وهو ما حدث بالفعل!

كان الحوار استكمالاً لديكور الديمقراطية المزيفة بهدف التصدير للخارج!

والواقع أن موقف المثقفين كان صعباً، فنحن بصدد حاكم مستبد وطاغية لا يقرأ، وكان أمر معارضته ومواجهته بعيوب نظامه مخاطرة مرعبة غير مأمونة العواقب.

وكانت الدعوة توجه للمثقفين «المعتدلين» الذين تدربوا على «مدونة سلوك قانون الطاعة» فى حضور الرئيس كان من الحماقة تجاوزها!

أما المثقفون المشاغبون المتطرفون، فكان حضورهم محظوراً، .. مرة واحدة فقط وقف الأستاذ «عبدالعال الباقورى» يخاطبه إبٍاَّن أزمة قانون الصحافة «93 لسنة 95» ويطالبه بمراجعة مشروع القانون، فقال: لا مش هيحصل.. فاستأذن الباقورى بأن يأمر بتعديل بعض المواد الخاصة بتغليظ عقوبة حبس الصحفيين، فقال: «برضه لأ.. إحنا ما بنبعش ترمس»!

ولكن الدكتور «محمد السيد سعيد» الذى كان مٍُهذباً ورقيقاً ومتحضراً وفى ذات الوقت صاحب عقل شجاع، راح يفند للرئيس خطابه المكرر عن الزيادة السكانية التي تلتهم الناتج القومى، وقال إن الزيادة السكانية فى مصر تعد ميزة نسبية، إذا ما أُحسن استخدامها كقوة بشرية، وهي تسمى بالمصطلح العلمى «الانتقال السكانى» وأشار إلى أن زيادة معدلات التنمية يجب أن تتواكب مع معدلات الزيادة السكانية، قائلاً: إن معدلات التنمية فى مصر لم تزد على 3.5٪ طوال 15 عاماً، مقارنة بدول سبقتنا مثل: ماليزيا والصين وكوريا التى تتراوح معدلات التنمية فيها بين 7 و10٪، فضلاً عن عشرات الدول الأخرى التى سبقتنا.

وتحدث عن انسداد جميع القنوات الموصلة لصناعة القرار السياسى وفقاً لإرادة الشعب، فالأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية صورية وشكلية وكرتونية.

وسأل الدكتور محمد الرئيس: سيادتك تشكو دائماً من أزمة البحث عن وزراء أكْفاء.. وهذا ناجم عن انسداد القنوات السياسية.

انتهى لقاء الرئيس بالمثقفين نهاية سيئة، إذ تعامل حسنى مبارك مع الدكتور «الجنتلمان» بخشونة وغلظة، لا تخلو من عجرفة وتحقير!

ولم أكن قد عرفت تفاصيل ما جرى على أبواب المعرض بعد انتهاء اللقاء إلا بعدها بثلاث سنوات؛ حين اتصلت بى زوجته الزميلة الفاضلة نور الهدى زكى، وقالت: محمد عاوز يكلمك، وبعد تبادل كلمات المجاملة طلب أن نلتقى فى اليوم التالى، وكان وقتها قد أصدر صحيفة «البديل» وتولى رئاسة تحريرها، وكانت الصحيفة متعثرة فى شهورها الأولى وطلب منى أن أتعاون معه.

سألته عما جرى بعد حوار الرئيس.. فروى لى القصة!

كنت أقف ومجموعة من المثقفين بباب القاعة التى جرت خلالها وقائع «الحوار» وانتظرنا قدوم الرئيس لنسلم عليه.. فإذا به ينصحنا بالكف عن المطالبة بتغيير الحكومة، وقال: إنتوا عاوزينا نرجع لما قبل ثورة 52 حين كان الملك يغير وزارة مرة كل ستة أشهر؟!

فقلت له: ولكن الملك يا سيادة الرئيس كان يفعل ذلك، لأنه كان يحتقر الدستور ويعتدى عليه!

يقول الدكتور محمد الذى كان يتحدث بتلقائية وفطرة وطنية دون حسابات ومدونة سلوك: «رأيت الشرر يتطاير من عينى مبارك، وملامح الغضب تكسو وجهه كأننى شتمته حين قلت: لو تسمح لى يا سيادة الرئيس أن أقدم لسيادتك ورقة بإصلاحات سياسية ودستورية لتكون قيد الدراسة».

فقال مبارك: حَُطَّها فـ ... جيبك «سكت قليلاً قبل كلمة جيبك»، ومضى قائلاً ويشخط: أنت متطرف.. وأنا بأه بفهم أحسن منك!

يقول الدكتور محمد: لحظتها أحسست بأننى لن أنام فى بيتى، وسيجرى لى ما جرى عام 89 حين تم اعتقالى وتعذيبى.. لتضامنى مع عمال الحديد والصلب.. وتلك قصة أخرى!